مأزق استراتيجي في أوكرانيا
هناك مؤشرات عديدة، تؤكد أن الصراع الدائر بين روسيا والقوى الغربية في أوكرانيا يتجه إلى الأسوأ، مع تراجع المساعي لإنهاء الحرب وإرساء السلام. وبدا الهجوم الإرهابي الأخير، الذي هزّ قاعة للحفلات في مجمع كروكوس التجاري بموسكو، مثلاً قادحاً إضافياً للتصعيد، في ظل اتهامات روسية لأوكرانيا وحليفتيها الولايات المتحدة وبريطانيا، بالوقوف وراء تلك العملية الدامية.
الأيام الماضية شهدت تطورات مثيرة للقلق، فمن ناحية، كثفت القوات الروسية من ضرباتها على المنشآت الحيوية والعسكرية الأوكرانية في مختلف أنحاء البلاد، واستخدمت للمرة الأولى قنابل خارقة وقاذفات استراتيجية، وسط توقعات بأن الأسابيع القليلة المقبلة، ستعرف زيادة غير مسبوقة في العمليات العسكرية، في ظل اللهجة الروسية الغاضبة تجاه كييف وحلفائها. وبعد أن تعهد الرئيس فلاديمير بوتين بأن بلاده ستلاحق كل المتورطين في هجوم كروكوس أينما كانوا، طالبت الخارجية الروسية رسمياً سلطات كييف باعتقال وتسليم جميع المتورطين في الهجمات الإرهابية ضد روسيا، بما في ذلك رئيس جهاز الأمن الأوكراني فاسيلي ماليوك.
وهذا التطور كان متوقعاً، وسبق لمسؤولين غربيين، وخصوصاً أمريكيين، أن حذروا منه، وحاولوا قدر الجهد إبعاد الشبهة عن كييف، خشية تصعيد يخرج عن السيطرة، بعد أكثر من عامين على تفجره.
ربما أكثر من أي وقت مضى في عمر هذه الأزمة، بات الوضع أكثر تعقيداً، في ظل تخبط غربي، يبدو أنه أضاع البوصلة، ويسعى بكل السبل إلى تجميد الصراع في ضوء تعذر الحسم العسكري الناجز لصالح أوكرانيا، ويتوازى هذا القلق المستبد بأوروبا، على وجه التحديد، مع انكفاء الدور الأمريكي تحت ضغط الانتخابات الرئاسية المقبلة والخلافات العميقة بين الديمقراطيين والجمهوريين، حول المساعدات المقدمة إلى كييف. ففي غياب الإمداد العسكري والمالي، باتت الآلة الحربية الأوكرانية تعاني مشاكل كبرى قد لا تسعفها على الصمود طويلاً، وهو ما عبر عنه صراحة وزير الخارجية الأوكراني السابق بافل كليمكين بقوله إن بلاده ستواجه شهوراً صعبة ومصيرية، على خلفية نفاد الأسلحة والذخائر، وتأخّر المساعدات العسكرية الغربية، وذلك رغم تأكيد المسؤولين الرسميين في كييف، أنهم قادرون على مواصلة القتال، لكن المعطيات على الأرض والنتائج الميدانية تحبط هذه الآمال التي تظل معلقة على ما يأتي من الغرب.
في غياب الدعم الأمريكي الحيوي، باتت القوات الأوكرانية فاقدة للسند. أما أوروبا فقد بدت في مأزق استراتيجي يكشف في كل يوم عن وجه جديد، فقد أدرك القادة الأوروبيون، وإن لم يصرحوا بذلك علناً، بأن كل الدعم الذي قدموه إلى كييف لم يحقق لها النصر البائن على روسيا، وبينما يسود الحذر الشديد ألمانيا، تحاول فرنسا أخذ زمام المبادرة، وبعد تلويح الرئيس إيمانويل ماكرون باحتمال التدخل المباشر، تبين أن ذلك التوجه أشبه بعملية انتحارية لن تحقق المطلوب منها، دون الدخول في صراع أوسع، وهو ما حذر منه رئيس الوزراء البولندي الجديد دونالد توسك، المناوئ لموسكو، عندما نبه إلى أن الوضع العام في أوروبا أشبه بحقبة ما قبل حرب كبرى، ومما يعطى هذا الموقف وجاهة وخطورة، أنه ينطبق تماماً على واقع الحال، إلا إذا حدثت معجزة، وتغلبت الحكمة على التهور، والدفع إلى التصعيد غير المحسوب.
المصدر: الخليج