رأي

ليس مهما ما قاله السيسي لأردوغان

كتب فاروق يوسف, في “العرب”:

يحمد لأردوغان أنه تراجع عن أوهامه الشخصية ولكن ذلك لا يلغي حقيقة أنه كان انتهازيا حين تناسى أن العرب دعموه من خلال استثمارات اقتصادية ساهمت في إنقاذ الاقتصاد التركي وصنعت منه منقذا.

أحيانا تمنع الأوهام الشخصية السياسيين من رؤية الحقيقة، إذا لم نقل إنها تدفعهم إلى الاحتيال على الواقع. غير أن رجل الدولة الشاطر هو من يغلّب مصلحة بلاده على أوهامه الشخصية. الرئيس التركي هو من ذلك النوع.

في لحظة تدهور لا يُقاس عليها مر بها العالم العربي اعتقد رجب طيب أردوغان أن حصان جماعة الإخوان المسلمين سيخترق الزمن ويعيده إلى السلطنة العثمانية.

كان ذلك وهما سيطر على أردوغان أولا بسبب تربيته الإخوانية المتشددة، وثانيا لأن الرجل أراد أن يحقق من خلال انتصاره اختراقا لتركيا الأتاتوركية بكل تراثها العلماني، الدولة التي قادها لزمن طويل من غير أن ينتصر عليها بأدبياته التي ظلت محصورة بين أتباعه ولم تحقق الانتشار الذي يأمله.

بتأثير رئيسها فعلت تركيا ما فعلته إيران من قبلها حين قطعت علاقاتها بمصر بعد أن أنهى الشعب المصري حكم الإخوان الذي كان واضحا أنه لو استمر فلن تكون الحرب الأهلية إلا واحدة من نتائجه المدمرة.

لم تتدهور علاقة تركيا بمصر وحدها. ذلك لأن العرب لم يتركوا مصر وحيدة. وهو ما انعكس على علاقتهم بتركيا. ولأن أردوغان رجل دولة قبل أن يكون حزبيا إخوانيا فقد أدرك أن إخوانيته لن تنفعه على مستوى تصريف شؤون الاقتصاد التركي المرتبط في جزء منه بالسوق العربية.

◄ ليس ذكاء من أردوغان أنه نجا ببلده من هذيانات الإخوان المسلمين وخرافاتهم ولكنه رجل عملي كتب المعادلات على لوح درسه فاكتشف أن الواقع يتخطى أوهامه الشخصية

ولأن تركيا ليست إيران العقائدية فقد وجد أردوغان أن التخلي عن جماعة الإخوان بكل فعالياتها هو أكثر نفعا لتركيا من التمسك بها وقد صارت جماعة محظورة ومطاردة في أنحاء العالم العربي.

لقد أدرك الرجل بحسه السياسي أن مصر هي الباب الواسع الذي تدخله إلى العالم العربي. لذلك قام بزيارتها بعد أن اتخذ إجراءاته المشددة ضد الجماعة المحظورة مصريا. بصحيح العبارة فهم أردوغان أن موقف العالم العربي من تركيا سيعود إيجابيا بشرط أن يصحح علاقته بمصر.

تصرف أردوغان باعتباره رجل دولة مسؤول عن إدارة الوضع الاقتصادي لشعبه. ذلك سلوك عملي بعيد عن شبهة العقائد الذي يعرف أردوغان نفسه قبل الآخرين أنها ليست سوى محاولة انتهازية لاستعمال الدين في عالم السياسة. ذلك ما تصر على الاستمرار فيه إيران وهي ما تظن أنها من خلاله ستربح حربها التي تشنها على الجميع.

بعد ذهاب أردوغان إلى القاهرة ذهب عبدالفتاح السيسي مرتاحا ومطمئنا إلى أنقرة. إنه لا يرد الزيارة بالمثل بل يسعى إلى تفعيل العلاقات بين الدولتين بما يعود بها إلى سويتها. مصر وتركيا دولتان كبيرتان على خارطة الشرق الأوسط ويمكنهما من خلال التعاون المشترك أن تفعلا الكثير من أجل الحفاظ على أمن المنطقة وبالأخص على مستوى أمنها الغذائي ناهيك عن أمنها السياسي.

يحمد لأردوغان أنه تراجع عن أوهامه الشخصية وقدّم مصلحة تركيا على عقائديته التي تأكد أنها لا تقوده إلا إلى دروب مغلقة. ولكن ذلك لا يلغي حقيقة أنه كان انتهازيا حين تناسى أن العرب دعموه من خلال استثمارات اقتصادية ضخمة ساهمت في إنقاذ الاقتصاد التركي وصنعت منه منقذا. لا يزال من الصعب نسيان موقفه من سوريا وهو الموقف الذي كان يقوم على اللعب بخريطتها وتغيير الخرائط في المنطقة. وفي هذا المجال ينبغي ألاّ ننسى أن لتركيا قواعد عسكرية في شمال العراق كما أن هناك جيشا سوريا تابعا لها. بهذا المعنى لا تزال تركيا عدوة للعالم العربي.

لا أعتقد أن تلك الحقائق خافية على الرئيس السيسي.

في هذا الوقت الحرج عربيا سيكون مهمّا تحييد تركيا. صحيح أن الرئيس التركي كان ولا يزال يندد بحرب الإبادة التي تشنها إسرائيل على الفلسطينيين غير أن علم دولته لا يزال يرفرف في سماء تل أبيب، هناك حيث تقع سفارتها. لم تكن استعراضاته تعني شيئا خطيرا ومؤثرا بدليل أن الدولة العبرية لم تردّ عليها. لقد اعتبرتها أحداثا طارئة. ربما تعميق صلة تركيا بالعالم العربي بالأخص في المجال الاقتصادي سيشكل اختراقا لعالم السياسة. تلك هي مبادرة أردوغان التي حاول من خلالها أن ينهي سنوات من خضوعه لأوهامه. وهي السنوات التي فقدت تركيا خلالها الكثير من مصالحها الاقتصادية.

ليس ذكاء من أردوغان أنه نجا ببلده من هذيانات الإخوان المسلمين وخرافاتهم ولكنه رجل عملي كتب المعادلات على لوح درسه فاكتشف أن الواقع يتخطى أوهامه الشخصية وأن الحقيقة لا يمكن تجاوزها.

أخبار مرتبطة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى