ليبيا: من إرث الانقسام إلى أفق السلام المستدام

كتب محمد الصالحين الهوني في صحيفة العرب.
ليبيا اليوم تقف عند مفترق طرق حاسم؛ فالمبادرات الشعبية والحلول الاقتصادية والدور الإقليمي، إلى جانب دور حفتر في صناعة السلام، تشكل جميعها ركائز لمسار جديد نحو الوحدة.
في أعقاب سقوط نظام العقيد معمر القذافي، بعد أكثر من أربعة عقود من الحكم، دخلت ليبيا مرحلة تحول جذري، انتقلت فيها من أحلام الثورة بالحرية والديمقراطية إلى واقع مأزوم من الانقسامات السياسية والعسكرية. خلّف انهيار النظام فراغًا مؤسساتيّا عميقًا، فسح المجال لظهور كيانات متنافسة، وتحولت المؤسسات الوطنية إلى أدوات بيد فصائل مسلحة وأطراف إقليمية. ولم يقتصر هذا الانقسام على المجال السياسي، بل امتد ليشكل أزمة إنسانية واقتصادية واسعة، تمثلت في نزوح الليبيين، وانهيار الخدمات الأساسية، وتآكل الثقة بأيّ مسار سياسي يسعى إلى الوحدة.
بدلاً من انتقال سلس نحو الديمقراطية، أفرز الفراغ المؤسساتي واقعًا من التشرذم، حيث سيطرت حكومة الوحدة الوطنية في طرابلس على الغرب بدعم من دول مثل تركيا وقطر، بينما بسط المشير خليفة حفتر نفوذه على الشرق والجنوب. وتعمّق الانقسام ليشمل المؤسسات الاقتصادية والعسكرية، مع وجود برلمانين متنافسين في طرابلس وطبرق، ما أدى إلى تراجع الإنتاج، وارتفاع معدلات البطالة، وسط غياب رؤية وطنية جامعة تغلب عليها الطموحات الشخصية والمصالح الإقليمية.
الحل الدبلوماسي يظل حجر الأساس عبر تشكيل لجنة مشتركة بين البرلمانين لصياغة قانون انتخابي موحد، مدعومًا بضغط أممي وإقليمي لتمهيد الطريق نحو انتخابات عامة
رغم هذا المشهد المعقد حمل نوفمبر 2025 مؤشرات أولية على انفراج حذر، إذ شهدت البلاد انخفاضًا ملموسًا في مستوى العنف مقارنة بالسنوات السابقة، بفضل اتفاقات وقف إطلاق النار والجهود الدبلوماسية المستمرة. وقد جدد مجلس الأمن الدولي تفويض بعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا (UNSMIL)، في خطوة تعكس التزامًا دوليّا بالمصالحة الوطنية. وحققت البعثة تقدمًا جزئيّا في توحيد المؤسسات المالية، مع بدء خطوات عملية لإدارة إيرادات النفط بشكل مشترك وشفاف. ويُعد النفط، الذي يمثل أكثر من 90 في المئة من الإيرادات الليبية، مصدرًا دائمًا للتوتر، لكن التوصل إلى آليات توزيع عادلة قد يعزز الثقة ويقلل الاعتماد على الدعم الخارجي.
من بين أبرز التطورات دعوات لاستعادة دستور عام 1951، الذي أسس المملكة الليبية المتحدة تحت حكم الملك إدريس السنوسي. ويُنظر إلى هذا الدستور، الذي جمع بين السلطة التنفيذية والتشريعية ضمن إطار ملكي دستوري ديمقراطي، كمرجعية تاريخية شرعية وتوافقية يمكن تعديلها لتلائم السياق المعاصر. وتأتي هذه الدعوات في سياق البحث عن حل وسط بعد تعثر محاولات سابقة لصياغة دستور جديد، مثل مؤتمرات الصخيرات وجنيف.
ولا تعني العودة إلى دستور 1951 بالضرورة إحياء النظام الملكي، بل استخدامه كقاعدة لتجاوز الانسداد السياسي، خاصة مع وجود دعم شعبي في بعض المناطق، لاسيما بين الأجيال الأكبر التي تتذكر فترة الاستقرار النسبي. ومع ذلك تثير هذه المبادرة تساؤلات حول مدى ملاءمتها للواقع الراهن، إذ قد يُنظر إليها كعودة إلى الماضي في وقت يطالب فيه الشباب بديمقراطية حديثة وشفافة.
وفي هذا السياق يبرز المشير خليفة حفتر كفاعل محتمل في مسار صناعة السلام، مستندًا إلى نفوذ عسكري ورؤية سياسية تتجاوز الاصطفافات التقليدية. ففي نوفمبر 2025 عقد حفتر سلسلة اجتماعات مع وفود قبلية من مناطق غربية مثل الزاوية وبني وليد، ناقش خلالها قضايا الاستقرار الوطني، ودعا إلى “تغيير جذري” يستند إلى الإرادة الشعبية كمنطلق لإعادة بناء الدولة. وتُعد هذه اللقاءات خطوة مهمة نحو كسر الانقسام الجغرافي، إذ تعكس رغبة في تجاوز الحواجز التاريخية بين الشرق والغرب، وتفتح المجال أمام توحيد المؤسسة العسكرية تحت مظلة وطنية جامعة.
يجب أن يشمل الحل المجتمع بأكمله، لاسيما الشباب الذين يشكلون غالبية السكان. فمبادراتهم، مثل الحوارات الافتراضية وحملات التوعية، تساهم في ترسيخ ثقافة الحوار والتسامح
وتحمل زيارة ابنه صدام حفتر إلى تركيا دلالات دبلوماسية لافتة، خاصة في ظل التحول الملحوظ في العلاقة بين الطرفين، من حالة عداء إلى إمكانية بناء تحالف إقليمي. هذا التحول يشي بانفتاح سياسي قد يُفضي إلى تعاون أوسع، يعزز فرص الاستقرار ويعيد رسم خارطة التحالفات في المنطقة.
يواصل حفتر قيادة جهود تهدف إلى ترسيخ الاستقرار، وقد نجح في إقناع عدد من الأطراف المنخرطة في عملية المصالحة بتجاوز الحسابات الشخصية والتركيز على بناء وحدة وطنية حقيقية. وتبدو قدرته على لعب دور محوري في هذه المرحلة مرهونة باستمرار التزامه بنهج يتسم بالانفتاح والواقعية، وهو ما قد يُعيد تشكيل صورته من قائد عسكري إلى صانع سلام.
ويظل الحل الدبلوماسي حجر الأساس عبر تشكيل لجنة مشتركة بين البرلمانين لصياغة قانون انتخابي موحد، مدعومًا بضغط أممي وإقليمي من الاتحاد الأفريقي والجامعة العربية لتمهيد الطريق نحو انتخابات عامة. غير أن الدبلوماسية وحدها لا تكفي، إذ يجب أن تُربط بالاستقرار الاقتصادي من خلال مشاريع نفطية مشتركة بين الشرق والغرب تحت إشراف دولي، لضمان توزيع عادل للعائدات. فهذا الربط يمكن أن يحوّل الخصومة إلى شراكة، ويتيح لحفتر دعم هذه المشاريع من موقعه في الشرق.
يجب أن يشمل الحل المجتمع بأكمله، لاسيما الشباب الذين يشكلون غالبية السكان. فمبادراتهم، مثل الحوارات الافتراضية وحملات التوعية، تساهم في ترسيخ ثقافة الحوار والتسامح. أما المغتربون الليبيون في أوروبا فهم يمثلون رأس مال بشري ثمين، ينقلون خبرات الديمقراطية ويساهمون في بناء مؤسسات حديثة. وتجاهل دورهم يُعد خطأً إستراتيجيّا.
ورغم التحديات المستمرة تقف ليبيا اليوم عند مفترق طرق حاسم. فالمبادرات الشعبية، والحلول الاقتصادية، والدور الإقليمي، إلى جانب دور حفتر في صناعة السلام، تشكل جميعها ركائز لمسار جديد نحو الوحدة. ويتطلب هذا المسار إرادة سياسية صادقة من حفتر وعبدالحميد الدبيبة، ودعمًا دوليّا جادًا، ومشاركة شعبية واسعة.




