لماذا يحق للشعب الليبي أن يتحرك

كتب الحبيب الأسود في صحيفة العرب.
الأحداث المتتالية منذ الإطاحة بالنظام السابق قبل 14 عامًا أكدت أن المجتمع الدولي غير جاد في بلورة حل مقنع للأزمة المتفاقمة ولم يقدم أي مقترح واقعي لإخراج البلاد من النفق.
أكدت الأحداث المتتالية منذ الإطاحة بالنظام السابق قبل 14 عامًا أن المجتمع الدولي غير جاد في بلورة حل مقنع للأزمة المتفاقمة، ولم يقدم أي مقترح واقعي لإخراج البلاد من النفق، وإنما استسلم لسلطة الميليشيات، ولمؤامرات شبكات الفساد ولصوص المال العام، ورضي بوجود القوات الخارجية وجحافل المرتزقة النشطة في مناطق نفوذ حكومة الأمر الواقع في طرابلس، واعتبر ذلك جزءًا من لعبة التوازنات الإستراتيجية في سياق الصراع الجيوسياسي القائم في المنطقة.
شهدت ليبيا ثلاث محطات مهمة؛ الأولى بدأت في العام 2011 بتشكل خارطة للتحولات الكبرى، تبيّن أن هدفها الأول هو تمكين تيارات الإسلام السياسي من الحكم، وتحويل ليبيا إلى بيت مال حركة الإخوان وتنظيم القاعدة والجماعات الإرهابية التي كانت تتحرك على أكثر من صعيد لبسط نفوذها على المنطقة العربية ضمن خطة “الفوضى الخلاقة” باعتبارها نظرية سياسية وإستراتيجية أميركية في الشرق الأوسط، انطلق تنفيذها في عهد الرئيس جورج دبليو بوش ابتداءً من غزو العراق في العام 2003.
أدت تلك المرحلة إلى سيطرة الميليشيات والجماعات المسلحة على السلطة والمجتمع، وتعميم الخراب في مختلف مناطق البلاد التي تحولت إلى ساحة استقطاب للإرهاب، وشهدت لأول مرة تأسيس إمارة إسلامية تابعة لتنظيم القاعدة على الضفة الجنوبية للمتوسط في مدينة درنة، ثم ولاية تابعة لتنظيم داعش انطلاقًا من مدينة سرت، مع تحويل جنوب البلاد إلى ساحة تجميع وتدريب وتسليح للإرهابيين من مختلف الجنسيات. وهو ما أفرز حراكًا ثوريًا مسلحًا أطلق شرارته الأولى في بنغازي بداية من منتصف مايو 2014 بقيادة المشير خليفة حفتر.
من يتأمل الوضع السياسي في البلاد ويراقب أسلوب الحكم والعبث بمفاهيم السيادة في المنطقة الغربية يدرك أهمية أن يتحرك الشعب الليبي للدفاع عن نفسه وعن مصالحه وعن حرية واستقلال بلاده
كانت ملامح المحطة الثانية قد تشكلت مع انقلاب الإخوان على نتائج انتخابات يونيو 2014، وإعلان الميليشيات المتشددة والخارجة عن القانون عن تدشين منظومة “فجر ليبيا” الإرهابية بداية من 13 يوليو من ذلك العام، وهو ما زج بالبلاد في حرب أهلية كان الهدف من ورائها تصفية القوى الوطنية والسيطرة على مقدرات البلاد من قبل أمراء الحرب المرتبطين بالعواصم الإقليمية والدولية الراغبة في بسط نفوذها السياسي والثقافي والاقتصادي والجيوسياسي على الجغرافيا الليبية.
فتحت منظومة “فجر ليبيا” المجال واسعًا أمام تقسيم مؤسسات الدولة بعد أن اضطرت الحكومة الشرعية إلى مغادرة طرابلس في اتجاه المنطقة الشرقية التي كانت تشهد ملحمة للمقاومة الوطنية ضد الجماعات الإرهابية، وتحتضن مجلس النواب المنعقد في طبرق بعد استحالة انعقاده في مقره الدستوري ببنغازي. تدخل المجتمع الدولي لإطلاق حوار سياسي بين الليبيين أفضى في ديسمبر 2015 إلى اتفاق الصخيرات الذي كان يهدف بالدرجة الأولى إلى إعادة تدوير جماعة الإسلام السياسي عبر تشكيل مجلس الدولة الاستشاري على أنقاض المؤتمر الوطني العام المنتخب 2012. جاء الاتفاق بالمجلس الرئاسي لحكومة الوفاق برئاسة فائز السراج ليزيد من تأزيم الوضع عبر توفير غطاء شرعي لجرائم أمراء الحرب وقادة الميليشيات. بالتزامن، كان الجيش الوطني يقود ملحمة التحرير في بنغازي ثم درنة وسرت والجنوب، وكان يتجه لتأمين الحدود وحماية مقدرات البلاد، ويسعى إلى تحرير المنطقة الغربية قبل أن تتدخل قوى خارجية بقواتها ومرتزقتها لدعم السائرين في ركابها من أصحاب المصلحة في ديمومة الفوضى.
المرحلة الثالثة هي تلك التي انطلقت بالاتفاق على وقف إطلاق النار في أكتوبر 2020، وتدشين الحوار الوطني في تونس بعد أقل من شهر، لتشهد العملية السياسية واحدة من أوسع عمليات الفساد متشعب الأبعاد من خلال شراء ضمائر المتحاورين، وهو ما تبيّن بالخصوص أثناء مؤتمر جنيف في فبراير 2021 الذي أفرز مجلسًا رئاسيًا وحكومة للوحدة الوطنية يدوران في فلك أسرة تخدم فئة بالاستناد إلى جماعة ومدينة وفق مصالح حلفاء داخليين ورعاة أجانب.
كان من أبرز محطات المرحلة الثالثة تحالف قوى داخلية وخارجية على عرقلة مشروع الانتخابات الرئاسية والبرلمانية التي كانت مقررة للرابع والعشرين من ديسمبر 2021، ومن هناك الاتجاه لقطع الطريق أمام أي حل سياسي يمكن أن يحول دون استمرار سلطات طرابلس في الحكم. فالحكومة التي جاءت للإشراف على تنظيم الانتخابات خلال 8 أشهر من تشكيلها لا تزال تواصل مهامها للعام الخامس على التوالي، ومجلس الدولة الذي جيء به لأداء مهمة استشارية وفق اتفاق الصخيرات تم تحويله إلى غرفة ثانية للبرلمان مهمتها تعطيل المبادرات وتأجيل الحلول. أما الميليشيات فلا تزال تسيطر على المنطقة الغربية مع تجميد متعمد لقرارات اللجنة العسكرية 5+5 الصادرة بخصوصها. وكل نداءات القوى الوطنية بإجلاء القوات الأجنبية والمرتزقة لا تجد صدى لدى سلطة الأمر الواقع.
يحق للشعب الليبي أن يتحرك بعد أن تأكد له ولمحيطه الإقليمي والدولي أن هناك أطرافًا داخلية وخارجية تمنع التوافق وتحول دون التوصل إلى حل
في الأثناء، تتواصل شبكات الفساد في نهب إيرادات الدولة من النفط والغاز، وفي المساومة على الاستثمارات الخارجية والحسابات المجمدة في بنوك الغرب. ولا يتوقف المهندس عبد الحميد الدبيبة وفريقه عند عرض سيادة الدولة ومقدراتها ومصالحها للمقايضة مقابل تأمين بقائه في مقر مجلس الوزراء بطريق السكة، وإنما يزيد على ذلك بالترويج لخطاب الكراهية والتفريق بين الليبيين، وبعرقلة أي مشروع للحل السياسي يبدأ بتشكيل حكومة وطنية موحدة، بما في ذلك مبادرات الأمم المتحدة، وبإغراق البلاد في أزمات مالية واقتصادية متلاحقة لإلهاء الشعب بمعاناته اليومية، معتمدًا على خطاب إعلامي تحريضي وفتاوى دينية تصدرها دار الإفتاء على المقاس، ومواقف دولية يتم شراؤها مسبقًا بأموال البلاد ورصيد الأجيال القادمة من الثروة.
إن من يتأمل الوضع السياسي العام في البلاد، ويراقب أسلوب الحكم والعبث بمفاهيم السيادة والقيادة في المنطقة الغربية، يدرك أهمية أن يتحرك الشعب الليبي للدفاع عن نفسه وعن مصالحه، وعن حرية واستقلال بلاده، وعن ثرواته ومقدراته ومستقبل أجياله، وعن وحدته الترابية والروابط الاجتماعية بين أبنائه. ومعنى أن يقول: لا للتدخلات الخارجية والمبادرات المستوردة. لا لاستمرارية التشرذم والانقسام والعبث بمصالح الدولة والمجتمع سواء من قبل سلطة الأمر الواقع أو منظومة الميليشيات. لا لتهميش إرادة الملايين وتزوير الحقيقة وتأبيد الواقع المفروض على طرابلس والمنطقة الغربية.
قد تقف الجماعات المسلحة في وجه أي حراك شعبي في المنطقة الغربية، ولكن المؤكد أن القوات المسلحة النظامية بقيادة المشير خليفة حفتر ستحمي الشعب وهو يخرج إلى الشوارع ليعلن موقفه، سواء في شرق البلاد أو في وسطها وجنوبها، وفي أي منطقة خاضعة لسيطرة الجيش الوطني. لاسيما أن تلك التحركات ستكون مؤطرة من قبل القيادات الاجتماعية المتمثلة في وجهاء وأعيان وحكماء ومشايخ القبائل الوطنية الوفية لحاضرها ومستقبلها، والمدافعة عن ثوابتها وقيمها، والمؤمنة بمبادئ “الكرامة” كثورة ومسار ونظام ورؤية سياسية واقتصادية واجتماعية وثقافية، وكمشروع حضاري عظيم هدفه ليبيا الواحدة الموحدة القوية العادلة الآمنة المستقرة الناهضة.
يحق للشعب الليبي أن يتحرك بعد أن تأكد له ولمحيطه الإقليمي والدولي أن هناك أطرافًا داخلية وخارجية تمنع التوافق وتحول دون التوصل إلى حل للأزمة المتفاقمة منذ 15 عامًا، وأن هناك من يتعمدون الحؤول دون تنظيم الانتخابات، ودون إعادة الأمانة إلى الشعب ليمارس حقه في اختيار من يحكمه عبر صناديق الاقتراع، وأن هناك من يراهن بالفعل على تأبيد الأزمة إلى أجل غير مسمى. وهو ما يتناقض تمامًا مع خيارات وقناعات وتطلعات المواطن الليبي الذي يرى أن جبهة الإنقاذ الحقيقية هي التي يتزعمها الشعب المدافع عن حقوقه والمؤمن برسالته والمتجه بقوة للقيام بواجباته وفق مصلحة الوطن والمواطن على خطى الكرامة والإنجاز.



