أبرزرأي

لماذا تشكل الفوضى السياسية في ألمانيا تهديدا للاستقرار؟

إن القضايا التي تفرق الألمان وتخيفهم أكبر من أن يتم التعامل معها، والمخاطر مخيفة للغاية، وقوى التغيير تبدو مستحيلة التنظيم بأي طريقة فعّالة. مارك فيشر – واشنطن بوست

إن الحرب والفوضى وتغيير الأنظمة تهز الشرق الأوسط. وتعاني بعض القوى الكبرى من انتكاسات مزعزعة للاستقرار في العالم. وتستمر الصين في توسيع مشاريعها الطموحة في كثير من بلدان العالم النامي. والآن تنهار الحكومة الألمانية.

وهذا هو نوع التقاء الأحداث العالمية الذي سينظر إليه المؤرخون لاحقا ويتساءلون لماذا فشل الناس في ذلك الوقت في التعرف على نقطة محورية أساسية. وكل هذا في الوقت الذي تبدو فيه المرساة الغربية، الولايات المتحدة، عاجزة عن إبقاء سفينة الدولة ثابتة.

إن سقوط الائتلاف الحاكم في برلين بقيادة الديمقراطي الاجتماعي أولاف شولتز يوم الثلاثاء الماضي يتعلق في بعض النواحي بألمانيا فقط. فعندما كنت أشاهد التغطية التلفزيونية الألمانية للتصويت المهم في البوندستاغ لإسقاط هذه الحكومة والدعوة إلى انتخابات جديدة، شعرت بالدهشة إزاء الطريقة التي نظر بها الألمان إلى الأخبار باعتبارها تأكيدا لمقولتين سياسيتين أمريكيتين: “كل السياسة محلية”، و”الأمر يتعلق بالاقتصاد، أيها الأحمق”. وإذا كنت تتخذ التغطية التلفزيونية الألمانية دليلا لك، فإن هذا الانهيار يتعلق في الأساس بالتهديدات بتقليص معاشات التقاعد وفوائد الرعاية الاجتماعية.

ولكن وراء هذا التهديد يكمن قلق ألماني كلاسيكي ودائم: الخوف من أن الاستقرار الذي تتمتع به البلاد لم يعد جديرا بالثقة. وهذا يقودنا مباشرة إلى الصورة الأكبر، والتي ليست ضيقة الأفق على الإطلاق.

منذ الحرب العالمية الثانية، كان الدور الأمريكي في أوروبا يتمثل في توفير الأمن ضد روسيا، ولكن أيضا داخل أوروبا. وباستثناء أوكرانيا، فإن هذه هي أطول فترة سلام بين الدول الأوروبية منذ قرون، وفي حين أن الاتحاد الأوروبي هو بالتأكيد السبب الرئيسي وراء ذلك، فإن ضمان الدعم والدفاع الأميركي من خلال التحالف الأطلسي هو الذي يوفر الأساس.

ولكن الآن يبدو هذا الأساس مهتزا للغاية. ورغم أن الحزب الجمهوري يبدو متشابكا بشكل لا يطاق بين نزعته الدولية الراسخة ونزعته الصاعدة المتمثلة في “أميركا أولاً” التي يتبناها ترامب، فإن الرئيس المنتخب يهدد بالتصرف على أساس انزعاجه المستمر منذ عقود من الزمان من حلف شمال الأطلسي والأوروبيين الذين ينظر إليهم باعتبارهم علقات واتكاليين. وهذه ليست وصفة للزعامة الأمريكية الفعّالة.

ولم تؤمن أي دولة أكثر من ألمانيا بالتجربة الأوروبية، وبقيمة وصلاحية الزعامة الأمريكية. ومن شبه المعجزات التاريخية أن الديمقراطية التي استمرت في ألمانيا الغربية بعد الحرب كانت مستوحاة جزئيا من نفس الدولة التي حولت الكثير من ألمانيا إلى أنقاض، وفرضت عليها وحافظت عليها.

في كل عقد منذ الحرب العالمية الثانية، كانت أصوات التطرف اليميني تستقبل كل تراجع في الحظوظ الاقتصادية أو السياسية للبلاد. ومع ذلك، فقد ظل الألمان، سواء قبل أو بعد إعادة توحيد الشرق والغرب في أعقاب سقوط جدار برلين في عام 1989، يبذلون ثقتهم وجهودهم باستمرار في فلسفة الاستقرار فوق كل شيء.

والآن يتصاعد اليمين المتطرف مرة أخرى، في صورة حزب سياسي معاد للهجرة، وهو حزب البديل من أجل ألمانيا، الذي يكتسب أصواتا حتى في الوقت الذي تراقب فيه وكالة الأمن الداخلي التابعة للحكومة التهديد الذي يشكله على دستور البلاد وديمقراطيتها.

إن هذه الزيادة تحدث في نفس الوقت الذي فقد فيه الحزبان الرئيسيان، الديمقراطيون المسيحيون المحافظون والديمقراطيون الاجتماعيون اليساريون، ــ تماما مثل جمهوريينا وديمقراطيينا ــ رؤيتهم الواضحة للمستقبل، ونتيجة لهذا، شهدتا ارتباكا بين أتباعهما التقليديين.

في النظام البرلماني الأوروبي، عندما يفشل هذا الإجماع، فإن الفوضى قد تلي ذلك بسرعة مقارنة بالنظام الفيدرالي في الولايات المتحدة. إن تصويتات حجب الثقة تصل إلينا على مدى سنوات وليس مجرد أسابيع أو أشهر. وتكافح أنظمة برلمانية أخرى، في فرنسا وبريطانيا، جنبا إلى جنب مع النظام الألماني، لضمان ثقة مستقرة في الحكومة.

ولكن الانتخابات الأمريكية كانت بمثابة رفض واضح للوضع الراهن، وهي تساهم في إثارة قلق الغرب. وفي غياب أوروبا الموحدة بشكل معقول، فإن قدرة الولايات المتحدة على مقاومة استيلاء الصين على السلطة أو كبح جماح خيالات فلاديمير بوتين في استعادة الإمبراطورية سوف تكون مقيدة بشدة.

ولكن إذا حالفنا الحظ، فسوف يتعثر الألمان في تشكيل ائتلاف حاكم جديد بعد حملة انتخابية تستمر على مدى الشهرين المقبلين، ولكن ليس هناك ما يدعونا إلى الاعتقاد بأن الانتخابات سوف تنتج تصورا واضحا عن الاتجاه الذي تتجه إليه البلاد. فبالنسبة للألمان، كما هو الحال بالنسبة للأمريكيين، فإن القضايا التي تفرق الناس وتخيفهم أكبر من أن يتم التعامل معها، والمخاطر مخيفة للغاية، وقوى التغيير تبدو مستحيلة التنظيم بأي طريقة فعّالة.

إن الألمان كما اكتشفت المستشارة السابقة أنغيلا ميركل في سنواتها الأخيرة في منصبها، حريصون على تقديم أنفسهم للعالم كقوة من أجل السلام والمساواة، لكنهم ليسوا على استعداد للمجازفة بأمنهم الاقتصادي لاستقبال لاجئي العالم إلى الحد الذي قد يغير الطابع الأساسي لبلدهم.

ورغم التزامهم بالسيادة الأوكرانية ــ فقد قدم الألمان المال والمعدات العسكرية لإثبات ذلك ــ لكنهم ليسوا على استعداد لاستفزاز الروس إلى الحد الذي قد يخاطر بأمنهم. وتزداد ثقتهم المتزعزعة بسبب احتمال اندلاع حروب تعريفات جمركية عالمية تهدد بضرب اقتصادهم المعتمد على التصدير بقوة خاصة.

إن انهيار الحكومة الألمانية يأتي في لحظة حرجة وهشة بالنسبة للعالم. وهو أمر مقلق بشكل خاص لأن الألمان، سواء أحبوا ذلك أم لا، فهم أصبحوا رمزا حيويا للاستقرار في الغرب ونموذجا لما يمكن للمجتمع الدولي بقيادة الولايات المتحدة أن يحققه. ويميل الألمان إلى الاعتقاد بأنهم يعتمدون إلى حد كبير على قوة الولايات المتحدة. وينبغي لنا ــ وهم ــ أن ندرك أننا نحتاج أيضا إلى قوتهم.

المصدر: واشنطن بوست

أخبار مرتبطة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى