
قد تكون تسوية ما في شأن أوكرانيا مطروحة أخيراً لكن التفاوض حولها في ظل غياب كييف عن الطاولة لا يبعث على الأمل
كتبت ماري ديجيفسكي, في صحيفة اندبندنت عربية:
للوصول إلى وقف إطلاق نار قريب، لا بد من تغييرات كبيرة. فروسيا تتصرف حالياً تماماً كما يتوقع من طرف يملك الأفضلية العسكرية –إذ تسعى إلى تعظيم مكاسبها قبل بدء أية محادثات محتملة. أما أوكرانيا، فتؤكد أنها مستعدة لهدنة غير مشروطة على كل الجبهات، إن التزمت روسيا بالمثل، بينما تواصل تنفيذ هجمات داخل الأراضي الروسية.
هل تلتقي أخيراً وجهات النظر الأوروبية والأميركية حول خطة للسلام في أوكرانيا؟ أم أن اجتماعات باريس هذا الأسبوع كانت مقدمة لافتراق وشيك بين الجانبين؟
النتائج، استناداً إلى البيانات المقتضبة الصادرة عن الجانبين، يمكن تفسيرها بأي من الطريقتين، على رغم أن أياً منهما لا يبدو أنه يبشر بقرب نهاية الحرب، أو بزيادة الدعم لأوكرانيا في وجه روسيا.
التفسير الأول، المستمد من البيان المقتضب الصادر عن قصر الإليزيه بعد فترة قصيرة من انتهاء الاجتماعات، كان يشير إلى أن الأوروبيين والأميركيين وجدوا بعض القواسم المشتركة. وقال البيان إن المناقشات “ركزت بصورة أساس على مفاوضات السلام الهادفة إلى إنهاء العدوان الروسي في أوكرانيا”، وخصوصاً “استناداً إلى المحادثات التي جرت بين رئيس الجمهورية (إيمانويل ماكرون) والرئيس ترمب، وكذلك على عمل ’تحالف الراغبين‘، والذي تتشارك في قيادته كل من فرنسا والمملكة المتحدة…”.
وهذا يعد أقرب ما وصل إليه الطرفان حتى الآن في التلميح إلى أي نوع من التعاون في سياسة أوكرانيا، بعد اتباع نهجين شبه متضادين منذ عودة دونالد ترمب إلى السلطة.
في الواقع، وعلى مدى نحو ثلاثة أشهر، منذ أن أجرى ترمب أول مكالمة رئاسية له مع الرئيس بوتين، بدا الجانب الأوروبي يحاول –إن لم يكن إفشال جهود ترمب لتحقيق السلام– دعم أوكرانيا لمواصلة الحرب عوضاً عن السعي إلى إنهائها. ومن هذه الزاوية، بدا بيان الإليزيه واعداً بصورة خافتة، وإن لم يتجاوز ذلك بكثير.
ولكن، حتى ذلك القدر من الأمل سرعان ما تبدد مع البيان الأميركي الذي أصدره وزير الخارجية الأميركي ماركو روبيو في الصباح التالي، إذ قال روبيو إن صبر الولايات المتحدة مع الطرفين المتحاربين بدأ ينفد، وإن الأميركيين قد ينسحبون من المفاوضات إن لم تكن هناك من إشارات واضحة عن إمكانية التوصل إلى هدنة بين روسيا وأوكرانيا. وقال “علينا أن نحدد بسرعة –وأعني خلال أيام– ما إذا كان هذا الأمر قابلاً للتحقيق”، وإن لم يكن كذلك، “فسنمضي قدماً ببساطة”.
هذا الموقف –على رغم أن روبيو لم يفصح عنه بصورة مباشرة– يفضي عملياً إلى تحميل الأوروبيين مسؤولية مستقبل أوكرانيا. وهو سيناريو كثيراً ما استعد له الأوروبيون في سلسلة اجتماعاتهم الأخيرة، لكنهم في الوقت نفسه سعوا جاهدين إلى تفاديه، إذ كانت جهودهم تهدف إلى إبقاء الولايات المتحدة منخرطة في الملف. إلا أن أميركا تبدو اليوم وكأنها توجه إنذاراً مفاده أن لديها ما هو أهم من التدخل في “مأزق أوروبي محدود”، كما تراه.
وهذا تحديداً ما لم يكن الأوروبيون يرغبون في سماعه، ويبدو أنه أقل ترحيباً بكثير لدى الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي، الذي لم يخف اقتناعه بأن الأوروبيين، على رغم نياتهم الحسنة، لا يمكنهم تعويض الدعم الأميركي.
قمة باريس تكشف عمق الانقسام بين أوروبا والولايات المتحدة
ولعل عزاءه الوحيد –إن جاز عده عزاءً– هو إعلان البيت الأبيض تزامناً مع انعقاد اجتماع باريس عن التوقيع على اتفاق صارم بنظام “الإعارة والتأجير” (Lend-Lease) خلال أسبوع، يمنح بموجبه الولايات المتحدة امتيازات في ثروات أوكرانيا المعدنية ومصادر طاقتها. لكن، هل يعني رهن مستقبل أوكرانيا لمصلحة واشنطن ضمان حماية أميركية ما؟ وإن صح ذلك، فإلى متى؟ وعلى أي أجزاء من أراضي أوكرانيا سيشمل هذا الضمان؟
هذه مجرد بعض الأسئلة التي من المرجح أن يكون الأوروبيون بصدد التدافع لإيجاد إجابات عنها في غضون أيام، أو المهلة التي يبدو أن الولايات المتحدة حددتها كموعد نهائي لإحراز بعض التقدم نحو هدنة. ولكن ذلك يترك غموضاً حول ما إذا كانت تحذيرات الولايات المتحدة في هذا الشأن حقيقية حول طرح مسألة إنهاء جهود السلام الأميركية، أم أنه مجرد محاولة للضغط على روسيا وأوكرانيا –وكذلك الأوروبيين– لحثهم على اتخاذ خطوات حاسمة؟ وربما حتى المفاوضون الأميركيون في باريس لا يعرفون الجواب.
الاجتماع نفسه بدا كأنه لقاء غامض الطابع وغير منظم، برئاسة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون وبحضور وزير الخارجية الأميركي ماركو روبيو، والمبعوث الخاص لترمب، ستيف ويتكوف –الذي أطلقت عليه مراسلة في “بي بي سي” لقب “المبعوث لكل شيء”– إضافة إلى ممثلين على المستوى الوزاري من فرنسا وألمانيا (المنشغلة بتشكيل ائتلافها الحكومي الجديد) والمملكة المتحدة. وورد ذكر خاص لمستشار الأمن القومي البريطاني جوناثان باول الذي ينسب إليه، وإن بصورة متنازعة عليه، تقديم المشورة للرئيس زيلينسكي في شأن كيفية إصلاح علاقته مع ترمب بعد فشل لقائهما في المكتب البيضاوي.
هذا النقص الواضح في صورة التنظيم قد يكون للأفضل أم للأسوأ. فقد يكون الاجتماع جاداً في مضمونه، وإن تجاهل البروتوكول، أو على العكس، أنه لم يكن سوى محاولة استكشافية لن تتكرر، على رغم التخطيط لعقد اجتماع متابعة في لندن الأسبوع المقبل.
لكن للوصول إلى وقف إطلاق نار قريب، لا بد من تغييرات كبيرة. فروسيا تتصرف حالياً تماماً كما يتوقع من طرف يملك الأفضلية العسكرية –إذ تسعى إلى تعظيم مكاسبها قبل بدء أية محادثات محتملة. أما أوكرانيا، فتؤكد أنها مستعدة لهدنة غير مشروطة على كل الجبهات، إن التزمت روسيا بالمثل، بينما تواصل تنفيذ هجمات داخل الأراضي الروسية.
ومع تزامن عيد الفصح لدى الطوائف الأرثوذكسية الشرقية والغربية هذا الأسبوع، كان هناك بعض الأمل في هدنة موقتة، لكنه يبدو بعيد المنال.
كما أن اجتماع باريس لا يبدو أنه سيحمل معه تحسناً حقيقياً في العلاقات الأميركية الأوروبية، على رغم أجواء الود التي ظهرت بين ترمب ورئيسة وزراء إيطاليا جورجيا ميلوني، عقب انتهاء الاجتماعات. فمن السمات اللافتة في ولاية ترمب الثانية –التي تشهد زخماً سياسياً لافتاً– تدهور العلاقات مع أوروبا بصورة حادة، وهذا يشمل أوروبا بأسرها، من المملكة المتحدة –على رغم “العلاقة الخاصة”– إلى الاتحاد الأوروبي وأوكرانيا نفسها.
ويبدو أن تصريحات وزير الخارجية روبيو بعد اجتماع باريس حمل في طياته ما يشير إلى إعادة ترتيب الأولويات الأميركية، والتي بشرت بها تحذيرات وزير الدفاع الأميركي خلال فبراير (شباط) الماضي، وانتقادات نائب الرئيس الأميركي جي دي فانس العلنية لأوروبا في مؤتمر ميونيخ للأمن الأوروبي بعدها بيومين. ومنذ ذلك الحين، وفي كل شيء تقريباً، انتهج الأوروبيون والأميركيون مسارات متوازية لا تلتقي.
قد يتضح مدى استعداد الأوروبيين لإجراء تعديلات على سياساتهم بعد اجتماع المتابعة المتوقع عقده الأسبوع المقبل في لندن. لكن في ظل انعدام ثقة زيلينسكي الواضحة بالمبعوث الأميركي الخاص ويتكوف، ومن خلال رد فعله السلبي للغاية على اجتماع باريس، يبرز شبح النتائج الأسوأ على الإطلاق المرتقبة، وهو أن يجتمع الأميركيون والروس وربما الأوروبيون على مضض إلى حد ما، ليقرروا مستقبل أوكرانيا من دون مشاركة كييف نفسها.