لكي نفهم إسرائيل.. ماذا عن ترويض نتنياهو للجيش والدولة العميقة؟
كتب د. أحمد أبو الهيجاء في الجزيرة.
لا يمكن فهم مآلات الحرب الحالية دون فهم عميق للتحولات في إسرائيل ذلك أن كثيرًا من التحليلات التي ترتبط بحرب الإبادة التي تجري حاليًا في قطاع غزة والاستنزاف الدامي في الضفة الغربية تنبثق أحيانًا من إسقاطات بها نوع من التسطيح، ولعل أكثرها تسطيحًا تنميط الإجابة بأن جزءًا من عدم اتخاذ إسرائيل قرارًا بإنهاء الحرب مرتبط بخوف رئيس وزرائها بنيامين نتنياهو من اعتقاله ومحاكمته بتهم الفساد، ولعل أكثرها فكاهة هي أن نتنياهو مكبل بوزيرَين متطرفين هما بن غفير وسموتريتش.
انقسام مزمن
لا يمكن بالطبع إنكار التباينات واختلاف المواقف داخل الحزب الواحد، وهو يحمل أيديولوجيا واحدة فكيف بائتلاف يتكون من أحزاب وبرامج متنوعة ولديه التزامات تجاه قواعده الانتخابية، لكن ما يشاهد في محاولات كتابة الفصل الأخير من هذه الحرب لا يمكن فصله عن الصراع الدائر بين “إسرائيل الأولى” و”إسرائيل الثانية” وهو انقسام مزمن تجاوز مرحلة الحل.
إذ لو افترضنا أنّ الحرب في غزة انتهت وسقطت حكومة نتنياهو الحالية وذهب المجتمع الإسرائيلي إلى انتخابات مبكّرة، فإن هذه الانتخابات لن تحلّ مشكلة هذا المجتمع، ولن تكون سوى امتداد لأربعة انتخابات سابقة جرت لحسم هذا الانقسام، ولكن نتائجها جميعًا عززت هذا الانقسام، وبالتالي فإن التوازنات السياسية الحالية قائمة لأجل غير مسمّى.
تمثل “إسرائيل الأولى” الدولة العميقة، وهي الجيش، والأمن، والمحكمة العليا، وبعض الأجهزة البيروقراطية، مثل النيابة، بينما تتكوّن “إسرائيل الثانية” من اليمين السياسي والديني بقيادة نتنياهو كفكرة، وتجسيدها الفيزيائي من قبل اليمين الأيديولوجي.
ترويض الدولة العميقة
يعتبر الوضع في إسرائيل غاية في التعقيد من حيث الصراع بين الطرفين، وبعد السابع من أكتوبر/تشرين الأول نجح تيار “إسرائيل الأولى” في السيطرة على الموقف وإضعاف جبهة اليمين السياسي، ولكن سرعان ما استعاد اليمين الأيديولوجي عافيته، ومع مرور الوقت بات يوجه اللكمات الصعبة لتيار “إسرائيل الأولى”، أو الدولة العميقة.
عمل نتنياهو والتيار الذي يمثله على إعادة هندسة المجتمع الإسرائيلي خلال العقدين الماضيين، واختراق مؤسسات الدولة العميقة والسيطرة عليها، وبرع نتنياهو في إضعاف مؤسسة الجيش في إسرائيل، وتغيير ولاءاتها، والتقليل من قوة تأثيرها في مجريات الحياة السياسية، وكذلك إضعاف الموالين للجيش داخل أجهزة الأمن الأخرى. يشار هنا إلى أن إسرائيل دولة قائمة على الجيش. ومن المؤكد أنه وبعد نهاية هذه الحرب سيكون ملف تعامل اليمين مع الجيش أحد ملفات السجال الصعبة في إسرائيل.
كما عمل التيار الديني الصهيوني الذي يعتبر مستوطنو الضفة والقدس خزّانه البشري على اختراق مؤسسة الجيش طيلة العقدين الماضيين، وبشكل تدريجي عمل ويعمل على تحييد القيادات التقليدية العلمانية للجيش. بدأ التحول داخل الجيش بعد عام 2000؛ فخلال انتفاضة الأقصى التي اندلعت عام 2000 كانت السيطرة في الجيش للنخبة القديمة، بدأ بعد ذلك التحول الجذري من “الكيبوتس” للقومية الدينية، فانتهت ثقافة “الكيبوتس” التي قامت عليها إسرائيل بعدما تم فقدان السيطرة على هذا التحول.
يكفي الإشارة في هذا المضمار إلى أن قائد المنطقة الوسطى في جيش الاحتلال حاليًا مستوطن من الضفة الغربية، ومن أصل ستّ فرق تقاتل حاليًا في قطاع غزة، فإن قادة خمسٍ منها ينحدرون من التيار الديني في مستوطنات الضفة الغربية، وجميعهم من خريجي مدرسة “عيلي” الدينية الاستيطانية التي تعتبر رمز التطرف في إسرائيل، ويطلق عليها مدرسة “السم” من شدة تطرفها.
يعني ذلك أنّ هؤلاء القادة بعد انتهاء الحرب على غزة ومع مرور الوقت وبالتراتبية العسكرية، سيكونون في هيئة الأركان على حساب القيادة التقليدية العلمانية للجيش.
لذلك، وفي سياق هذه التحولات داخل الجيش والمؤسسة الأمنية الإسرائيلية لصالح اليمين الأيديولوجي، يمكن فهم الهجوم والتسريبات الصحفية المستمرة من محيط نتنياهو، ومن نتنياهو شخصيًا بشكل غير مباشر، ومن قادة اليمين الديني بشكل أكثر فجاجة ضد الجيش والأمن، واتهامهم المستمر بالمسؤولية عن الإخفاق في السابع من أكتوبر/تشرين الأول، وكذلك تحميلهم مسؤولية الفشل في إدارة الحرب على غزة، وكأن معركة تصفية الحساب مع الجيش والأجهزة الأمنية واليمين مستمرة حتى في ذروة الحرب.
أداء مخيب للآمال
يمكن في إطار ذلك أيضًا فهم السجال الأخير مع الأجهزة الأمنية الأخرى، مثل: الشاباك (جهاز المخابرات الداخلي)، والموساد (الخارجي)، والشرطة، إذ إن اليمين الديني كان أكثر نجاحًا في اختراق جهاز الشرطة منه في اختراق جهازَي الشاباك والموساد اللذين بقيا متماسكَين في ولائهما للدولة العميقة في “إسرائيل الأولى” من باقي أجهزة الأمن.
سيعطي ذلك مادة لفهم الهجوم المستمر مثلًا من قبل بن غفير على الشاباك واتهامه بأنه يحاول إقصاءه، والخلاف في موضوع السجون، حتى وصل ببن غفير لاتّهام الشاباك بأنه يسعى لاغتياله سياسيًا، لا يقصد طبعًا الاغتيال الجسدي.
من المؤكد الإشارة إلى أن هذه الحرب الكلامية من بن غفير وما يقوم به أيضًا ضد رئيس أركان الجيش الإسرائيلي، تتم بإيعاز مباشر من بنيامين نتنياهو من تحت الطاولة، كما يفعل تمامًا مع توجيه ميري ريغيف في الهجوم المستمر على رئاسة الأركان في الجيش الإسرائيلي.
تجدر الإشارة هنا إلى أن صورة الجيش الإسرائيلي تهشّمت بشكل كبير بعد السابع من أكتوبر/تشرين الأول داخل المجتمع الإسرائيلي، وأيضًا نتيجة أدائه المخيب للآمال في الحرب على غزة وعدم قدرته على تحقيق انتصار واضح من وجهة نظر جمهوره، وبات لا يتلقى اللكمات فقط من جبهتي غزة ولبنان اللتين أظهرتاه بمظهر العاجز التائه وكشفتا عور قدراته التي كان يبالغ فيها لعقود مضت، ولكنه يتلقى اللكمات أيضًا داخليًا من قبل اليمين الديني.
يعتبر ذلك علامة فارقة في قراءة مستقبل إسرائيل كدولة قامت شرعيتها ونسجت بقاءها على صورة الجيش الذي لا يقهر. وهي صورة لم يعد بالإمكان ترميمها.
لقد دخل المجتمع الإسرائيلي في صراع لم تعد الانتخابات قادرة على حسمه، يترافق ذلك مع حقيقة أن الصهيونية الدينية باتت على وشْك قيادة الجيش في إسرائيل، كما أن هناك تيارًا تشكل داخل الصهيونية الدينية تغلغل وبات على علاقة وثيقة بالمتدينين التقليديين المعروفين باسم “الحرديم”، وأصبح يطلق على هذا التيار المستجد في إسرائيل “الحردليم”.
تجدر الإشارة هنا إلى أن المتدينين التقليديين “الحرديم” يرفضون الانضمام إلى الجيش منذ قيام دولة إسرائيل، ويعتبرون أنفسهم “حراس التوراة” المتفرغين للعبادة، فيما تسعى الدولة العميقة لا سيما بعد الخسائر الجسيمة التي لحقت بها جراء استنزاف الحرب إلى فرض التجنيد على هذه الفئة التي كانت أقلية عند قيام إسرائيل، وباتت شريحة واسعة اليوم. بينما عيون تيار “الحردليم” المتنامي هي على السيطرة على الجيش، وتطهيره من القيادة العلمانية.
لا يعتبر بنيامين نتنياهو متصالحًا فقط مع هذا التيار اليميني الديني، لكنه جزء أصيل من قيادته، كما أنه متوافق مع توجهاتهم الإستراتيجية، بمعنى أن صناعة التطرف هي بضاعته قبل أنْ تكون مفروضة عليه بتحالفات معينة؛ لأن المسألة أعمق بكثير من مجرد تحالف حكومي.
يقول العارفون في إسرائيل إذا أردت أن تعرف بماذا يفكر بنيامين نتنياهو فعليك الاستماع لما يقوله مائير بن شبات رئيس معهد الإستراتيجية الصهيونية والأمن القومي ومستشار الأمن القومي والرئيس السابق لمجلس الأمن القومي في إسرائيل.
ولا يعتبر وزير المالية الإسرائيلي يتسلئيل سموتريتش رئيس الحزب الديني القومي “الصهيونية الدينية” في هذه المعادلة أكثر من قمة رأس الجليد لهذا التيار، وصبي صغير، مقارنة ببن شبات ومن يرسمون توجهات هذا التيار في معهد مسجاف ومنتدى كوهيليت والحاخامية الدينية التي تقف خلفه.
جهد جماعي منظم
لا يمكن أيضًا الفصل بين تنامي “إسرائيل الثانية”، ممثلة بهذا التيار وعلى سمع وبصر “إسرائيل الأولى” دون الربط المباشر بينهما وبين الامتدادات في الولايات المتحدة الأميركية، فهذه التيارات هي امتداد لتيارات مسيحية صهيونية داخل الولايات المتحدة، سواء داخل الديمقراطيين وهم الأقرب “لإسرائيل الأولى” والدولة العميقة وأخرى داخل الجمهوريين متحالفة مع اليمين الديني الذي يمثل “إسرائيل الثانية”، وبين هذا وذلك تيارات ولوبيات اقتصادية ودينية وسياسية متداخلة، وقوة أي طرف في المجتمع الأميركي تنعكس مباشرة على قوة الطرف المقابل له في إسرائيل.
إنه جهد جماعي منظم يمثله نتنياهو وله عقل إستراتيجي، ولفهم توجهاته لا سيما تجاه الفلسطينيين والمنطقة العربية لا بد من التمعن في قراءة منظريه ومنهم مائير بن شبات.
إن استمرار تغلغل اليمين الديني بكافة أذرعه داخل أجهزة الدولة في إسرائيل، وفي حال تصاعد هذه السيطرة قد يؤدي مع مرور الزمن إلى هجرة العقول ورأس المال في إسرائيل، حيث إن كثيرين منهم علمانيون “أشكناز” (يهود غربيون وغالبيتهم مزدوجو الجنسية) يقطنون منطقة تل أبيب والمركز.
بدأت هذه الهجرة المعاكسة تزداد بعد السابع من أكتوبر/تشرين الأول، وجمهورها الأكبر من العلمانيين. من المفارقات هنا أن مخططات هندسة المجتمع لدى الفلسطينيين من قبل الدوائر الصهيونية وفرض بعضها بالقوة بهدف التطويع، تتم حركات مشابهة لها في المجتمع الإسرائيلي، ولكن بدون أيادٍ خارجية عابثة.
يمكن أيضًا فهم بعض التوجهات الجزئية نحو القضايا المرتبطة بالحرب من هذا المنظور، فمثلًا عدم منح تيار اليمين الديني أهمية لمسألة الأسرى في قطاع غزة، نابعٌ من أنه من حيث المكانة الاجتماعية فإن غالبية الأسرى هم من سكان كيبوتسات وقرى الجنوب القريبة من قطاع غزة وهم ليسوا في غالبيتهم من أعضاء الدينية الصهيونية التي تتمركز في الضفة الغربية والقدس بشكل رئيسي، بمعنى أن الأسرى الإسرائيليين في غزة لو كانوا من مستوطني الضفة أو منطقة المركز لكان التعامل مختلفًا في رغبة هذا التيار في إنجاز الصفقة؛ نؤكد أن هذا عامل من عوامل عديدة وليس حاسمًا، لكن لا يمكن إغفاله.
الحسم المطلق للصراع
يعني ذلك أنه انتهى الزمن الذي يشعر فيه الإسرائيلي بأن إسرائيل لكل مواطنيها، وبات على فئات عديدة فيه التعايش مع تراتبيات وتركيبات اجتماعية مستجدة ومتنامية ممزوجة بأشكال مختلفة من التطرف الديني والعنصرية الداخلية قبل أنْ تكون عنصرية أكثر تجذرًا تجاه الآخر غير اليهودي.
أما من حيث العلاقة مع الفلسطينيين؛ وبعد كل هذا الشرح فإن تيار اليمين الديني الذي يقود الحكومة الحالية لم يعد من أولوياته السلام مع العرب أو حتى التطبيع الذي كان يروج له من خلال نجاحه قبل السابع من أكتوبر/تشرين الأول في تجاوز حقوق الفلسطينيين كشرط للتطبيع مع العرب، فقد باتت أولويته بعد السابع من أكتوبر/تشرين الأول فقط هي الانتصار والهيمنة العسكرية الكاملة طريقًا لتعزيز الردع، وهذا ما برز في مؤتمراتهم التي عقدوها مؤخرًا.
يؤمن هذا التيار بإعادة تشكيل إسرائيل ديمغرافيا، ويسعى لرسم خارطة هذا التغيير بالقوة، ويؤمن بحتمية تهجير الفلسطينيين بمكوناتهم الثلاثة: قطاعِ غزة، الضفة الغربية، فلسطينيي 1948، ويعبر عن ذلك بوضوح تام. ولكن دول العالم لا تريد أن تسمع ذلك وتتغاضى عنه؛ لكي لا تكون أمام استحقاقات تفرض عليها التزامات لا تريدها.
وبينما تعتبر أولوية الدولة العميقة في منع تحول إسرائيل لدولة ثنائية القومية، وتصنيف المجتمع الدولي لها مع مرور الزمن لدولة فصل عنصري والتورط في تبعات ” الأبارتهايد؛ يعتبر التيار اليمين الديني أنّ الحل لذلك بسيط وهو تهجير الفلسطينيين من أراضيهم.
يرى تيار الدولة العميقة أن سلوك التيار اليميني الديني (إسرائيل الثانية) سيورط إسرائيل ويحولها لدولة فصل عنصري ما يجعل انهيار إسرائيل وإزالتها من الوجود أسرع، والوقوع في فخ حقوق متساوية للجميع مع مرور الزمن؛ لأن الولايات المتحدة الأميركية ومهما كان دعمها لإسرائيل فإن للتطرف حدودًا والإيغال به سيصعب مهمة حماية إسرائيل بالنسبة لها خاصة في مسائل الفصل العنصري.
يعتبر ذلك جزءًا مهمًا من رؤية الطرفين للصراع وإن كانا متفقين على عدم منح الفلسطينيين دولة. كما أن الأمور أصبحت أكثر تعقيدًا بعد السابع من أكتوبر/تشرين الأول وتداعيات الفشل في الحرب على غزة وتداعياتها على الكيان.
يتوافق تيار “إسرائيل الأولى” ممثل الدولة العميقة مع توجهات الإدارة الأميركية لفصل مصير غزة عن الضفة الغربية، وإعادة تشكيل الخارطة الديمغرافية الفلسطينية بجيوب معزولة، لكنها تحظى بإطار سياسي معترف بها عالميًا للخروج من مأزق الفصل العنصري، بينما يسعى التيار الثاني إلى الحسم المطلق للصراع عبر التهجير.