رأي

لعنة العقد الثامن.. التأكّل الداخلي بعد انكسار الهيبة

كتب الباحث الفلسطيني أيمن الرفاتي في موقع “الميادين”

مع انتصاف العقد الثامن في تاريخ كيان الاحتلال، لم تعد الأسس التي قامت عليها “الدولة” منذ عهد رئيس الوزراء الأول ديفيد بن غوريون موجودة، وكل السياسات التي كانت تهدف إلى دمج الشتات اليهودي باتت تتكسر واحدة تلو الأخرى على منصة الخلافات السياسة، والأخطر هو انتكاس النظرية الأمنية الصهيونية، وتزامن الخلافات الداخلية مع تعاظم المهددات الخارجية، وانكسار هيبة الاحتلال في عيون المقاومة في المنطقة.

ويمكن رصد محاور عدّة للعنة العقد الثامن تشير إلى وجود مهدّدات حقيقية بألّا تصمد هذه “الدولة” لإتمام عقدها الثامن في ظل التأكّل الداخلي، وتنامي المخاطر الخارجية، وتراجع أهميّة الكيان في المنطقة مع ظهور بوادر بانهيار القطبية الواحدة في العالم التي تقودها الولايات المتحدة؛ حامية الكيان وأحد أسباب بقائه حتى وقتنا الحالي، وجميع المحاور المذكورة لا تعني أنَّ “دولة” الاحتلال ستنهار غداً، لكنّها تؤكد أنَّ النحت في هذه الدولة أصبح أكبر وأسرع داخلياً وخارجياً.

على المستوى الدّاخلي، فإنَّ المبادئ التي رسّخها رئيس حكومة الاحتلال الأول ديفيد بن غوريون بالدم لتوحيد اليهود تحت راية “الجيش” والحكومة الواحدة باتت اليوم تتفسخ أمام التطورات والشرخ العميق داخل المجتمع الصهيوني، فالشرخ طفا على السطح كاشفاً خلافات عميقة وغير قابلة للحل في المستقبل القريب، فلا تجانس بين اليهود الغربين والشرقيين، وبين اليمين واليسار، وبين اليهود الأصليين المهاجرين.

أراد بن غوريون ربط اليهود بـ”الجيش والدولة” كعمود يستند إليه الجميع للاستمرار. لهذا، أمر عام 1948، بعد شهرين من إعلان “الدولة”، بقصف سفينة “ألتلنا” التابعة للمنظمة الصهيونية “إيتسل” التي كانت مُحمَّلة بكميات كبيرة من الأسلحة لمصلحة المنظمة، نظراً إلى أن المنظمة العنصرية الفئوية تريد أن تكون قوة بموازاة قوة “الجيش والدولة”. وخلال تبادل لإطلاق النيران بين الطرفين، قتل 16 عنصراً من “إيتسل” و3 من “الجيش”. ومنذ ذلك الوقت، تمَّ ترسيخ المعادلة التي أرادها بن غوريون.

في العقد الثامن لـ”دولة” الاحتلال، ورغم أنَّ أكثر من 60% من اليهود الموجودين في فلسطين التاريخية وُلدوا في كنف كيان الاحتلال وخضعوا جميعاً لمنهج دراسي واحد وبرامج حكومية لربطهم بـ”الدولة”، فإنَّ كل هذه الجهود لم تستطع تذويب الفروقات والخلافات الداخلية بينهم، بل على النقيض من ذلك، زادت حدّة الخلافات والتجاذبات الداخلية، ووصلت إلى مراحل متقدمة وسط تحذيرات من تطورها إلى حرب داخلية.

في الوقت الحالي، وفي ظلِّ حال الخلاف الحاد والمصلحة الذاتية لأطراف الحكومة بقيادة بنيامين نتنياهو، تسيطر على قادة الاحتلال ومفكريه حالة تشاؤم، خشية تأثير الخلاف في مستقبل “الدولة” بعد وصوله إلى “الجيش” الذي يُعدُّ عمود “الدولة” والأساس في بقائها ذاتياً.

وقد جاءت تهديدات وزير “الجيش” يوآف غالت بالاستقالة في ظلِّ التأثير الخطر لتمرير الإصلاحات القضائية، بعدما شهد خطورة وصول الخلافات إلى “الجيش” وتمرد الضباط والجنود والاحتياط وتأثير هذا الأمر في الدافعية للقتال وقدرة “الجيش” على تنفيذ المهام المطلوبة منهم في ظل تنامي المخاطر.

وللمرة الأولى، يدخل “الجيش” في أتون الخلافات الداخلية، والأخطر أن أعداداً من الجنود كسرت الخطوط الحمر في ما يتعلق برفض أداء الخدمة العسكرية، نتيجة شعورهم بأنَّ القيادة السياسية الحالية لم تُقدِّم تضحيات في “الجيش”، ولا تعرف المخاطر التي يمكن أن تضعه فيها. لهذا، حذَّر قادة احتجاجات قوات الاحتياط من تفكك “الجيش”، لأن الآلاف سيمتنعون عن أداء الخدمة العسكرية.

على مستوى المخاطر، فإنَّ كل يوم يحمل تزايداً في المخاطر أمام “دولة” الاحتلال، في ظل وجود مقاومة متصاعدة ضد الاحتلال تزيد من قوتها، وتطور من قدراتها يوماً بعد يوم، وتبتكر أساليب جديدة، وتصنع مفاجآت أكثر خطورة. ولم تعد قضية الحرب المتعددة الجبهات ضد “دولة” الاحتلال مجرد أفكار، بل باتت ضمن إستراتيجية واضحة تعمل عليها جميع أطراف المقاومة.

ولهذا، تستشعر “دولة” الاحتلال خطورة ما يجري، ففي الوقت الذي يتواصل صعود قوة الجمهورية الإسلامية الإيرانية وتطور قدراتها في مختلف المجالات، يواصل أيضاً حزب الله اللبناني تطوير قدراته على مختلف المستويات، ناهيك بالمقاومة الفلسطينية في قطاع غزة التي تطور قدراتها كذلك على المستويين الصاروخي والميداني، وفي مجال الطائرات المسيرة والسايبر.

وفي الضفة الغربية والقدس والداخل المحتل عام 1948، تفتح جبهات جديدة ظنت “دولة” الاحتلال أنَّها تحت السيطرة وفي مأمن منها في ظل جهد أمني وعسكري كبير لم يتوقف منذ 3 عقود.

التقديرات الأمنية في “دولة” الاحتلال ترى أنَّ كل يوم يمر يحمل فيه جديداً في تطور قدرات المقاومة وتنامي المخاطر وصنع معادلات خطرة وتفكير متنامٍ في كيفية التخلص منها، لكن الأخطر هو تراجع هيبة “دولة” الاحتلال لدى الفلسطينيين ومحور المقاومة بشكل غير مسبوق، وتجذر الإيمان لدى الشعوب بقرب التخلص من هذا الكيان.

وقد عززت الضربات الموجعة التي تنفذها المقاومة خلال العقدين الأخيرين، وآخرها معركة “سيف القدس” عام 2021، الإيمان بأنّ هزيمة هذه “الدولة” والتخلص منها أمر قابل للتحقيق، وأنّها أوهن من بيت العنكبوت، بل إنَّ الدعاية التي كان الاحتلال يستخدمها حول قوة “جيشه” بأنّه “لا يقهر” وأنّه “الأقوى في المنطقة” تحوّلت إلى أضحوكة وكلام من الماضي، فقد بات شاب فلسطيني بقطعة “كارلو” أو بسلاح رشاش قادر على هزّ الكيان وزلزلة أركانه.

ولعل أبرز تجليات كسر الهيبة هو نشوء جيل فلسطيني جديد يؤمن بخيار المقاومة في الضفة المحتلة والقدس، رغم التعقيدات الأمنية الكبيرة التي تجعل العمل المقاوم فيهما شبه مستحيل، والمنطق يقول إنّه لو كان هناك شيء من هيبة “جيش” الاحتلال لما نمت المقاومة في الضفة وتصاعدت كما نراها اليوم.

وفي هذا الإطار، يقول معهد دراسات الأمن القومي الإسرائيلي إنَّ التهديدات الأمنية اشتدت في الآونة الأخيرة بشكل كبير على المستوى الإيراني أوّلاً، والجبهة الفلسطينية ثانياً، وجبهة حزب الله اللبناني ثالثاً. والأخطر من ذلك كله أنَّ الصدع الداخلي الذي تمر به “إسرائيل” يجعل تركيزها على التعامل مع التهديدات بسيطاً وغير كافٍ.

على مستوى أهمية “دولة” الاحتلال، فإنَّها ترى أنَّ مؤشرات تراجع الأحادية القطبية (والهيمنة الأميركية) في العالم وتنامي التعددية القطبية سيؤديان إلى تراجع أهمية “إسرائيل” كـ”دولة” في منطقة الشرق الأوسط، ما يعني انحسار امتيازات الدعم القائمة على الهيمنة الأميركية في المنطقة.

وفي العقد الثامن لـ”دولة” الاحتلال، ترى “إسرائيل” أنَّ العلاقات الإستراتيجية بينها وبين الولايات المتحدة في تراجع واضح، وهناك خشية من أن تصبح الحسابات الأميركية الداخلية أكبر من الحسابات السياسة الخارجية، ما يعني تراجع أهمية “دولة” الاحتلال وعدم تدخل الولايات المتحدة لحمايتها من الانهيار.

وفي هذا الإطار، يعتبر 3 من كبار ضباط “الجيش” الإسرائيلي، هم اللواء يعقوب بانجو رئيس قسم التكنولوجيا واللوجستيات، والعقيد نير يناي رئيس قسم التخطيط الإستراتيجي في شعبة الإستراتيجية، والرائد يوناتان نيبو رئيس الفرع الدولي في دائرة التخطيط الإستراتيجي، في مقال مشترك لهم مطلع العام الجاري، أنَّ هناك تراجعاً واضحاً في الدعم الأميركي أمنياً وعسكرياً لـ”إسرائيل”، في ظل تهديد حقيقي للهيمنة الأميركية عالمياً، وتراجع أهمية الشرق الأوسط بالنسبة إلى الولايات المتحدة، وتراجع دعم الجمهور الأميركي والنظام السياسي لـ”إسرائيل”.

التأكّل الداخلي في “دولة” الاحتلال نتيجة الشرخ الداخلي وطبيعة القيادة الحالية التي لا تتماشى مع السياسة الخارجية الأميركية، يعزز الموقف الأميركي السلبي تجاه حكومة الاحتلال، وسط تراجع واضح لمكانة “دولة” الاحتلال في استطلاعات الرأي داخل الولايات المتحدة.

الدعم الأميركي والوضع الداخلي والمهددات الخارجية هي 3 أضلاع في نظرية بقاء “دولة” الكيان تتعرض للنحت وتتصاعد لتصبح مهددات وجودية. وبإجادة قراءتها، فإنَّ بإمكاننا توقّع مستقبل هذا الكيان ومدى قدرته على الصمود لسنوات أخرى.

إن الآراء المذكورة في هذه المقالة لا تعبر بالضرورة عن “رأي سياسي” وإنما تعبر عن رأي صاحبها حصرا

أخبار مرتبطة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى