لعبة الصندوق والدبابة والتنافس على أفريقيا.
ليس أسوأ من الانقلاب العسكري في بلد سوى التدخل العسكري الخارجي ضده. ولا فرق، سواء أكان التدخل العسكري من الجيران أو من قوة كبرى بعيدة. حتى العقوبات الاقتصادية والمقاطعة الدبلوماسية التي جرى فرضها على السلطات الانقلابية، فإن تأثيرها بقي محدوداً.
التجارب في أفريقيا كانت مشجعة، لا فقط على القيام بانقلاب في النيجر بل أيضاً على صمود قادة الانقلاب أمام تهديدات منظمة “إيكواس” وضغوط الاتحاد الأفريقي والأمم المتحدة وأوروبا وأميركا والصين، بصرف النظر عن الموقف الروسي الملتبس والداعم عملياً.
الانقلاب الذي قام به قائد الحرس الجمهوري الجنرال عبدالرحمن تياني على الرئيس محمد بازوم سبقه خلال سنوات قليلة في منطقة دول الساحل انقلابان في بوركينا فاسو، وانقلابان في مالي، وانقلاب في غينيا كوناكري.
وكان على الشاشة أيضاً انقلاب في السودان سبقته انقلابات في الخرطوم نفسها وعواصم عدة في أفريقيا وآسيا وأميركا اللاتينية. انقلابات حدثت في مرحلة التشجيع عليها ضمن الصراع الجيوسياسي بين الجبارين الأميركي والسوفياتي أيام الحرب الباردة.
أما بعد انهيار جدار برلين وسقوط الاتحاد السوفياتي، فإن موسم العودة إلى الأنظمة الانتخابية المسماة ديمقراطية بدا واسع الازدهار، ثم بدأت المنظمات الإقليمية. وبينها الاتحاد الأفريقي، تحريم الانقلابات العسكرية ومقاطعة من يقوم بها والتهديد بعمل عسكري للعودة إلى ما كان قبل الانقلاب.
لكن مختصر اللعبة هو التناوب بين الصندوق والدبابة. لا فقط ضمن أسباب وظروف محلية بل أيضاً في إطار تنافس دولي بين واشنطن وبكين وموسكو وباريس وبرلين وعواصم أوروبية أخرى على النفوذ كما على الموارد. فما هو رصيد وكنز لأفريقيا، أي الثروات الطبيعية، صار مشكلة جاذبة للصراع بين المدنيين والعسكر، وللتنافس بين الكبار، ولظهور منظمات غير دولية تمارس الإرهاب وهي تبحث عن حصة في الثروة.
السيناريوهات متقاربة. ديمقراطية وانتخابات في بلدان أحزابها قبائل متصارعة. الزعيم الخاسر يرفض التسليم بنتائج الانتخابات. والزعيم الرابح يعمل على تعديل الدستور للبقاء في السلطة إلى النهاية، بحيث صار من النادر تداول السلطة بسلاسة.
الحاكمون المدنيون يمارسون الفساد والسطو على المال العام ويتركون الناس في فقر وبؤس من دون تنمية اقتصادية ولا تحسين لنوعية التعليم ولا فرص عمل ولا باب للأمل سوى الهجرة واللجوء إلى أوروبا. والضباط الذين يقومون بانقلابات رافعين شعار القضاء على الفساد والسعي إلى التنمية والوعد بتقديم فرص عمل للشباب واستعادة الثروات من الشركات التي تحتكرها، تغريهم السلطة، بحيث يمارسون الفساد والسطو على المال العام تاركين الناس في الفقر والبؤس.
كما أن الحاكم المدني الذي يأتي به الصندوق والحاكم العسكري الذي تأتي به الدبابة يدخلان في لعبة النفوذ بين الكبار والشراكات الاقتصادية والمالية مع المستثمرين، حيث تتحكم بالموارد القوى الخارجية، من اليورانيوم إلى الذهب والماس مروراً بالنفط.
إذا كانت فرنسا تسيطر على اليورانيوم في النيجر وتقيم قاعدة عسكرية إلى جانب قواعد أميركية وإيطالية وألمانية، تاركة 1500 جندي في البلد الذي استعمرته طويلاً، فإن التظاهرات الشعبية التي خرجت إلى الشوارع ضد فرنسا حملت العلم الروسي. لا لتعزيز الاستقلال بل انتقال من التحالف مع قوة خارجية إلى التحالف مع قوة أخرى.
الانطباع السائد حالياً أن أمام أفريقيا فرصة مهمة للإفادة من التنافس بين أميركا والصين وروسيا وأوروبا، لكن السؤال هو: من يستفيد؟ الشعب أم الحكام سواء كانوا منتخبين أو انقلابيين؟ الجواب في مصارف سويسرا.
اللعب بين المتنافسين لم يعد صعباً. تاريخ فرنسا الاستعماري مشكلة. تاريخ أميركا في استغلال الأفارقة كعبيد داخلها مشكلة. الصين بلا تاريخ استعماري وهي تقوم باستثمارات كبيرة ومهمة في أفريقيا لكن ما يسمى “فخ الديون” الصينية مشكلة. وروسيا بلا تاريخ استعماري لكن ما تستطيع تقديمه هو القليل من المساعدات والاستثمارات إلى جانب القمح والأسلحة، وهذه مشكلة.
مدنيون وعسكر يتناوبون على السلطة، وينشطون في اللعب بين الكبار، والحصيلة حتى الآن هي مئات الآلاف من الباحثين عن اللجوء إلى أوروبا حتى في “قوارب الموت”.