رأي

لا حظّ للإنجازات دون إصلاح شامل في الجزائر

كتب صابر بليدي في صحيفة العرب.

العزوف الشعبي عن الانتخاب وعن الفعل السياسي لا يزال في مكانه أو تدحرج أكثر، وذلك نتيجة طبيعية لأن الإصلاح السياسي الذي انتظره الجزائريون لم يكن في مستوى التطلعات والآمال.

المتابع لخطاب القسم الذي أداه الرئيس الجزائري أمام ممثلي وكوادر الأمة، بمناسبة تنصيبه رئيسًا للبلاد للمرة الثانية على التوالي، يلمس تفاصيل وجزئيات في الاقتصاد والتنمية والخدمات، لكنه لا يلحظ معالم مشروع بذاته يمكن تتبع خطوطه ونتائجه؛ الأمر الذي يبقي البرنامج الانتخابي برمته، سواء في الولاية الأولى أو الثانية، مجرد خارطة طريق لرد الفعل واحتواء ظرفي للأزمات والتطورات.

ما زالت وزارة الصحة تحمل يافطة “وزارة الصحة وإصلاح المستشفيات” منذ أكثر من عقدين، لكن لا أحد في البرلمان أو المجتمع المدني أو حتى وسائل الإعلام حمل إلى الوزير أو الحكومة السؤال عن نتائج الإصلاح بعد كل هذه السنوات أو إلى متى سيستمر هذا الإصلاح؟

وهذه عينة من التركة التي ورثها الرئيس تبون، أو يزعم أن مشروع الجزائر الجديدة جاء للقطع مع ممارسات الماضي وتصويب الانحرافات التي وضعت البلاد على حافة الهاوية. لكن الملاحظ إلى حد الآن أن المشروع يأخذ من هذا الجزء وذاك التفصيل دون أن يقدم خارطة طريق شاملة لإصلاح الوضع والاختلالات المتغلغلة في مختلف المجالات.

خلال الولاية الأولى ساد لدى السلطة الاعتقاد في أن أخلقة الحياة السياسية وتجديد المؤسسات المنتخبة وإطلاق العنان للمجتمع المدني سيفرز مشهدًا سياسيًا جديدًا. لكن الحاصل أن الوضع بقي في مربع الصفر أو أكثر مقارنة بالجزائر “القديمة”، فالعزوف الشعبي عن الانتخاب وعن الفعل السياسي لا يزال في مكانه أو تدحرج أكثر، وذلك نتيجة طبيعية لأن الإصلاح السياسي الذي انتظره الجزائريون لم يكن في مستوى التطلعات والآمال.

لقد دخل الردع بقوة على المال السياسي الفاسد، وتمت محاصرة لوبيات شراء وبيع الأصوات الانتخابية، وسُجن منتخبون وأُقصي مرشحون، وأُطلقت سلطة مستقلة للانتخابات، لكن ذلك لم يمنع استمرار الفطريات الحزبية والجمعوية والنقابية، ولم ينتج نخبة جديدة تضخ القدر اللازم من الدم في الأوصال المشلولة. وانتهت البلاد إلى نتائج انتخابية مثيرة للجدل والغموض في استحقاق السابع من سبتمبر الجاري، بين مؤسستين دستوريتين (السلطة المستقلة والمحكمة الدستورية) بسبب فوارق البيانات والإحصائيات.

تعهد الرئيس بتفصيل نتائج عهدته السابقة وبرنامجه اللاحق خلال عرض أمام البرلمان، وتحدث عن تحقيق الاكتفاء الذاتي من القمح الصلب والذرة والزيت في غضون عامين. لكن الجزائريين ينتظرون مشروعًا واضحًا لإصلاح القطاع الزراعي وتحقيق الأمن الغذائي، فالشعب لا يعيش بالقمح والذرة والزيت فقط. وارتفاع سقف أسعار البطاطا إلى دولار للكيلوغرام الواحد منذ نحو شهرين متتابعين يوحي بأن القطاع لا يمكنه النهوض بمادة أو مادتين أو عدة مواد، وإهمال المواد الأخرى، وإلا بقي اختلال الميزان كما كان.

قطاع الزراعة الذي ارتفعت مساهمته في الناتج الداخلي الخام إلى 30 مليار دولار، لا يزال بعيدًا عن توفير حاجيات المستهلكين واستقرار السوق، الأمر الذي يستدعي رؤية واضحة وشاملة لإصلاح القطاع برمته. فأسعار بعض الخضار والفواكه واللحوم والأجبان والمواد المحولة، توحي بأن التركيز على المنتجات الإستراتيجية لا يجب أن يحجب الرؤية عن الحاجيات والمواد الاستهلاكية الأخرى.

قبل أسابيع طرحت أزمة أسعار مادة البن، وتم استنفار الحكومة التي تدخلت بحزمة إجراءات من أجل الحفاظ على الوفرة والأسعار باللجوء إلى الخزينة العمومية. والآن طرحت بحدة أزمة عجلات المركبات التي تشهد هي الأخرى ندرة وارتفاعًا في الأسعار، في انتظار قرارات جديدة.. والحبل على الجرار.

وذلك مؤشر على أن القطاع التجاري هو الآخر في حاجة إلى إصلاح شامل، ولا يمكن الاستمرار في سياسة ردود الفعل واحتواء تقلبات الأسواق الداخلية والخارجية. وحتى إدراج الوضع في أول اجتماع لمجلس الوزراء خلال الولاية الرئاسية الجديدة، وتعهد الرئيس بردع ما أسماه بـ“ابتزاز الدولة” و“تهديد المتلاعبين بالسوق والأسعار”، وأن “مرسومًا رئاسيًا على وشك الصدور”، يوحي بأن القطاع لا يزال تحت رحمة التسيير الإداري، بدعوى محاربة الاحتكار والمضاربة والتلاعب، بينما تغيب قاعدة العرض والطلب والمنافسة والدور المنظم للحكومة.

الرئيس تبون، المزهو بإفادات إيجابية لمؤسسات مالية دولية حول الاقتصاد الجزائري صدرت خلال الأشهر الماضية، لم يرفع اللبس بين احتكار التجارة الخارجية وحظر الاستيراد وبين الندرة وارتفاع الأسعار حتى لمواد أساسية على غرار الدواء ومواد أولية. وأن تحقيق التوازن في الميزان التجاري لا يعني بالضرورة تعافي الاقتصاد، فقد يكون التضييق على الاستيراد على حساب حاجيات أساسية للمستهلكين.

لا يختلف اثنان في أن وتيرة الفساد المالي والسياسي تراجعت بشكل لافت خلال السنوات الأخيرة، وأن ذهنية السطو ونهب المال العمومي ضاقت عليها الدائرة. لكن الإدارة مازالت على وتيرتها البيروقراطية والبطء المعرقل لمصالح البسطاء كما الكبار من رجال الأعمال والمستثمرين بشهادة الرجل نفسه في أكثر من تصريح وتدخل. ولا يدري أحد كيف تجري بلورة التقسيم الإداري الجديد لتصل إلى أكثر من 100 ولاية (محافظة)، هل لمعالجة البيروقراطية، أم خلق مؤسسات وأجهزة بيروقراطية جديدة.

مشروع الحكومات الإلكترونية حققته دول منذ سنوات، ويصر الرئيس تبون منذ سنوات على رقمنة مختلف القطاعات من أجل إضفاء المزيد من الشفافية والليونة على إدارة الشأن العام. لكن هل تم التحضير البشري والمادي واللوجستي للعملية؟ فقد جرى إحصاء للسكن والسكان منذ عامين لكن لا معطيات ولا بيانات أفرج عنها رغم أن العملية جرت إلكترونيّا. وتوسعت التجربة لتشمل شتى القطاعات، لكن بقاء اليد البشرية هي التي تزكي الإشارة الإلكترونية يعطي الانطباع بأن الرقمنة لا حظ لها دون إصلاح حقيقي للقطاع الإداري.

أخبار مرتبطة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى