رأي

لافروف يلخص مخاطر كبرى تواجه العرب والعالم ودور الغرب في إشعال الحروب من فلسطين ولبنان حتى أوكرانيا

نشر موقع وزارة الخارجية الروسية مقالا للوزير سيرغي لافروف ناقش فيه بالتفصيل ميثاق هيئة الأمم المتحدة والوضع الدولي الراهن ودور الهيئة لاستعادة دورها كمركز لتنسيق أعمال الأمم.

وجاء في المقال:

اختتمت مؤخرا النقاشات السياسية العامة للدورة الـ 79 للجمعية العامة لهيئة الأمم المتحدة، والتي كنتم فيها ممثلا عن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين.

فهل هناك من مستقبل لـ “ميثاق المستقبل”؟

لقد عقد، في إطار أسبوع الأمم المتحدة رفيع المستوى الذي عادة ما يصادف عادة الأسبوع الأخير من شهر سبتمبر، منتدى بعنوان “قمة المستقبل”، وهو ما استجابت له روسيا بتفهم لفكرة الأمين العام أنطونيو غوتيريش لعقد مثل هذا المنتدى، لأن أزمة المنظمة العالمية تتعمق، ويجب القيام بشيء ما حيال ذلك. وقد شارك الدبلوماسيون الروس بصدق في الاستعدادات لهذا الاجتماع، رغم أنه لم يكن لدينا أي أوهام بهذا الصدد. علاوة على ذلك، شهد تاريخ الأمم المتحدة عددا من الأحداث الطموحة التي بلغت ذروتها بإعلانات ذات ضجة سرعان ما تم نسيانها بعد فترة.

 ولنتذكر قمة الألفية التي عقدت عام 2000، وأعلنت مهمة “تحرير الشعوب من ويلات الحروب”. وبعد أكثر من عامين بقليل قامت الولايات المتحدة الأمريكية، على رأس “تحالف الراغبين”، وتحت ذريعة سخيفة، بغزو العراق دون تفويض من مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، ولا يزال العراق غير قادر على التعافي من العواقب المدمرة لمغامرة هذا الغزو.

ثم أعلنت “القمة العالمية” التي عقدتها الأمم المتحدة عام 2005، والتي تم الإعلان فيها عن إقامة عالم عادل وفقا لمبادئ ومقاصد ميثاق الأمم المتحدة. ولم يمنع هذا “الالتزام المقدس” واشنطن وحلفاءها من تحريض رئيس جورجيا آنذاك ميخائيل ساكاشفيلي على شن عدوان مسلح ضد شعب أوسيتيا الجنوبية وقوات حفظ السلام الروسية عام 2008. وبعد ثلاث سنوات فقط، نظم “الناتو” تدخلا عسكريا في ليبيا، ما أدى إلى تدمير الدولة الليبية وتقويض استقرار البلدان المجاورة ومنطقة الشرق الأوسط ككل.

وفي عام 2015، اعتمدت قمة الأمم المتحدة للتنمية المستدامة خططا طموحة لمكافحة الفقر وعدم المساواة. في واقع الأمر، تبين أنها جميعا وعود فارغة على خلفية إحجام الدول الغربية عن التخلي عن الممارسات الاستعمارية الجديدة المتمثلة في نهب ثروات العالم كله لصالحها. يكفينا في هذا الصدد إلقاء نظرة على الإحصائيات المتعلقة بالوفاء بالوعود لتمويل تنمية بلدان الجنوب العالمي ونقل التقنيات الصديقة للبيئة.

ومثل كوفي عنان، وبان كي مون في حينهما، طرح غوتيريش مبادرته تحت شعار “إعادة تشغيل” التعاون العالمي. شعار عظيم، لا يمكن أن يكون أحد ضده ولكن، أي نوع من التعاون العالمي يمكن أن نتحدث عنه عندما يدوس الغرب على كل تلك “القيم الثابتة” للعولمة التي دعا إليها لسنوات عديدة من جميع المنصات، لإقناعنا بأنها ستضمن المساواة في وصول الجميع إلى منجزات الحضارة الحديثة. فأين حرمة الملكية الفردية، وحسن النوايا، وحرية التعبير، والحصول على المعلومات، والمنافسة العادلة في الأسواق وفق قواعد واضحة وثابتة؟

هل حان الوقت حقا للحديث عن التعاون العالمي في نفس اللحظة التي تشن فيها الدول الغربية حرب عقوبات حقيقية ضد نصف دول العالم، إن لم يكن ضد أغلبيتها، وعلى الدولار الذي تم الإعلان عنه باعتباره عملة وإنجازا ومنفعة لكل الإنسانية جمعاء، ليصبح فيما بعد سلاحا ضد الدول غير المرغوب فيها؟

إن الحصار التجاري المفروض على كوبا مستمر منذ أكثر من 60 عاما، وتطالب الأغلبية الساحقة من أعضاء المجتمع الدولي برفعه. وفي سعيها لتحقيق هدف سريع الزوال على نحو متزايد، بالحفاظ على هيمنتها، تعمل واشنطن على عرقلة العمل الطبيعي لمنظمة التجارة العالمية لحل النزاعات وإصلاح مؤسسات “بريتون وودز”، التي لم يعكس هيكلها منذ فترة طويلة توازن القوى الحقيقي في الاقتصاد العالمي والتمويل، فيما تشير جميع الإجراءات الغربية في هذا المجال إلى أن الولايات المتحدة وأتباعها يخافون ببساطة من المنافسة العادلة.

بل ووصل الأمر إلى حد أن الغرب يريد أيضا تحويل الأمم المتحدة نفسها إلى أداة لتعزيز أهدافه الأنانية، وكما أظهرت قمة المستقبل، فهناك محاولات متزايدة لتخفيف الطبيعة الدولية البينية للمنظمة العالمية. وتمت إعاقة التغييرات التي طال انتظارها في أساليب تعيين موظفي الأمانة العامة للأمم المتحدة، وهي المناصب الرئيسية التي تشغلها الآن البيروقراطية فعليا، و”ورثتها” عن الأقلية الغربية. وإذا كان الأمين العام يدعو إلى “إعادة تشغيل” التعاون العالمي، فيتعين على الأمانة العامة أن تعمل على تعزيز وتوحيد الأفكار، وتقديم خيارات للتسوية، وعدم اختراع الأعذار لإدخال روايات مفيدة للغرب في عمل الأمم المتحدة.

ولم يفت الأوان بعد لبث حياة جديدة في الأمم المتحدة. ولكن من غير الممكن أن يتم ذلك بمساعدة مؤتمرات القمة والإعلانات المنفصلة عن الواقع، بل من خلال استعادة الثقة استنادا إلى المبدأ القانوني: المساواة في السيادة بين كافة الدول. وحتى الآن هذا لا يحدث. ويتم تقويض الثقة، بما في ذلك من خلال تصرفات الغرب، مثل إنشاء صيغ ضيقة تحت سيطرته، متجاوزا الأمم المتحدة، لحل القضايا الخطيرة وحتى المصيرية. ومن بينها حوكمة الإنترنت، وتحديد الإطار القانوني لاستخدام تقنيات الذكاء الاصطناعي. وفي الوقت نفسه، تؤثر هذه المشكلات على مستقبل البشرية جمعاء، لذا يجب النظر إليها على أساس عالمي، ودون تمييز أو رغبة في تحقيق مزايا أحادية.

وهذا يعني أنه من الضروري التفاوض بأمانة، بمشاركة كافة أعضاء الأمم المتحدة، وليس بالطريقة التي تم بها إعداد ميثاق المستقبل: دون عقد جولة واحدة من المفاوضات، تشارك فيها كافة البلدان. وبدلا من ذلك، تم تنفيذ العمل تحت سيطرة المتلاعبين الغربيين. ونتيجة لهذا، فقد حشرت في الميثاق، قبل حتى أن يخرج إلى الوجود، مجموعة من الإعلانات التي صيغت على نحو منمق باللغة الإنجليزية، وهو مصير هذا النوع من “المنتجات” في القمم العالمية مع الأسف الشديد.

العالم والأمن

وليس الوضع أفضل فيما يخص تنفيذ قرارات مجلس الأمن، التي تعتبر ملزمة بموجب ميثاق الأمم المتحدة. وقد لاحظنا جميعا تخريب القرارات المتعلقة بتسوية كوسوفو واتفاقات دايتون بشأن البوسنة والهرسك. ويظل المثال الأكثر فظاعة هو المماطلة التي تقترب الآن من ثمانين عاما في التوصل إلى قرارات توافقية بشأن إنشاء دولة فلسطينية مستقلة تتعايش في سلام وأمن مع إسرائيل.

ولا يوجد ولا يمكن أن يكون هناك أي مبرر للأعمال الإرهابية التي وقعت يوم 7 أكتوبر 2023، والتي أصبح الإسرائيليون ضحايا لها. في الوقت نفسه، فإن كل من لا يزال لديه شعوب بالتعاطف، يشعر بالاستياء من حقيقة أن هذه المأساة تستخدم للعقاب الجماعي للفلسطينيين، الأمر الذي تحول إلى كارثة إنسانية غير مسبوقة. إن قتل الفلسطينيين بالأسلحة الأمريكية يجب أن يتوقف فورا، ولا بد من ضمان إيصال الإمدادات الإنسانية إلى قطاع غزة، ولا بد من تنظيم عملية ترميم للبنية التحتية. والأهم من ذلك، من الضروري ضمان تنفيذ حق الفلسطينيين المشروع في تقرير المصير والسماح لهم، بالأفعال “على الأرض” وليس بالأقوال، بإقامة دولة مستدامة إقليميا وقابلة للحياة داخل حدود عام 1967 وعاصمتها القدس الشرقية.

 والمثال “الصارخ” الآخر للأساليب الإرهابية كوسيلة لتحقيق أهداف سياسية هو الهجوم اللاإنساني على لبنان من خلال تحويل التكنولوجيا المدنية إلى أسلحة فتاكة. ويجب التحقيق في هذه الجريمة فورا. لكن من المستحيل بالفعل تجاهل عدد من المنشورات في وسائل الإعلام، بما في ذلك في أوروبا والولايات المتحدة، والتي تشير بطريقة أو بأخرى إلى تورط واشنطن وعلى الأقل الوعي بالتحضير لهجوم إرهابي.

إننا نفهم أن الأمريكيين ينكرون دائما كل شيء وسيبذلون قصارى جهدهم “لإسكات وطمس” الحقائق التي ظهرت. وهذا بالضبط ما فعلوه ردا على الأدلة الدامغة التي تثبت تورطهم في الهجمات الإرهابية على خطوط أنابيب الغاز “السيل الشمالي”. وبالمناسبة، كانت خطوط أنابيب الغاز هذه رمزا رائعا “للتعاون العالمي” الذي يحلم به الأمين العام للأمم المتحدة. ونتيجة لتدميرها تم تقويض القدرة التنافسية للاتحاد الأوروبي في الاقتصاد العالمي لسنوات عديدة لصالح الولايات المتحدة. كما يتحمل الغرب مسؤولية إخفاء الحقيقة عن منظمي عدد من الجرائم الشنيعة الأخرى، بما في ذلك الاستفزاز الدموي في ضاحية بوتشا بكييف، أبريل 2022، وسلسلة عمليات تسميم المواطنين الروس في إنجلترا وألمانيا.

ولا يمكن للأمانة العامة للأمم المتحدة أن تظل بمعزل عن الجهود المبذولة لكشف الحقيقة في المواقف التي تؤثر بشكل مباشر على الأمن العالمي. وفي الوقت نفسه، فهي ملزمة بالامتثال الصارم للمادة 100 من ميثاق المنظمة، والتي تنص على التصرف بنزاهة وتجنب إغراء التعاون مع دول فردية، لا سيما تلك التي لا تدعو صراحة إلى التعاون، كما لمح جوزيب بوريل ذات مرة: بتقسيم العالم إلى “حديقة” و”غابة” أو إلى “حديقة” و”غابة”، “الرواد على مائدة الديمقراطية” و”الموجودون على قائمة الطعام”.

ولن يكون من الخطأ أن نتذكر مرة أخرى “سجل إنجازات” أولئك الذين يطالبون بقية العالم باتباع “قواعدهم”، فيما رافق غزو أفغانستان والبقاء المخزي هناك لعقدين من الزمان تشكيل تنظيم “القاعدة”، وكانت النتيجة المباشرة للعدوان على العراق ظهور تنظيم “داعش”، وأدى اندلاع الحرب في سوريا إلى ظهور الجماعة الإرهابية جبهة النصرة “هيئة تحرير الشام” الآن. ويواصل التحالف الغربي شن ضربات على الأراضي السورية، ما يلهم النظام في كييف للقيام بأنشطة إرهابية مماثلة في المناطق الروسية، عندما يتعرض المدنيون والبنية التحتية المدنية للهجوم، بالمناسبة، بمساعدة مباشرة من  الغرب نفسه. وعلى أراضي سوريا، يقوم نظام زيلينسكي بالتنسيق مع الأمريكيين، بتدريب إرهابيي “هيئة تحرير الشام” على التقنيات الجديدة لإنتاج الطائرات المسيرة لغرض العمليات القتالية ضد القوات المسلحة الروسية الشرعية في سوريا.

في المقابل، فتح تدمير ليبيا على يد الغرب الباب على مصراعيه أمام تغلغل الإرهاب في منطقة الصحراء والساحل، وأدى تدفق الملايين من المهاجرين غير الشرعيين إلى أوروبا. ويجب على كل من يفكر في مستقبل بلدانه وشعوبه أن يكون يقظا للغاية بشأن المغامرات الجديدة لمخترعي هذه “القواعد” ذاتها.

 كما أن أساليب الاغتيالات السياسية التي أصبحت شبه شائعة، كما حدث في 31 يوليو بطهران، و27 سبتمبر في بيروت، تثير قلقا بالغا. وبعد أن شنت إسرائيل غزوها البري على لبنان ليلة الأول من أكتوبر، لم تصدر كلمة إدانة واحدة من الإدارة الأمريكية بشأن هذا العمل العدواني ضد دولة ذات سيادة. وهكذا فإن واشنطن تشجّع فعليا حليفتها في الشرق الأوسط على توسيع منطقة العمليات العسكرية.

والتطورات المأساوية وغير المقبولة في الصراع العربي الإسرائيلي في لبنان واليمن والبحر الأحمر وخليج عدن والسودان وغيرها من “المناطق الساخنة” في إفريقيا، تعكس حقيقة لا جدال فيها: الأمن إما أن يكون متساويا وغير قابل للتجزئة للجميع، أو لن يتوفر لأي أحد.

وقد ظلت روسيا لسنوات تحاول غرس فهم هذه الحقيقة، التي تبدو بدائية، في سياق الأمن الأوروبي في وعي واشنطن ولندن وبروكسل، الذين غمرتهم عقدة التفرد والإفلات من العقاب. وكما تعلمون، وعد الغرب في البداية بعدم تمدد “الناتو”، وفي عامي 1999 و2010 وقع في الوثائق الرسمية لمؤتمرات قمة منظمة الأمن والتعاون بأوروبا على الالتزام بعدم ضمان الأمن على حساب الآخرين. أما في واقع الأمر، يقوم حلف شمال الأطلسي بالتوسع الجيوسياسي والعسكري في أوروبا منذ ثلاثة عقود، في محاولة للحصول على موطئ قدم في منطقة القوقاز وآسيا الوسطى، ما يخلق تهديدات مباشرة لأمن بلادنا. والآن يحدث الشيء نفسه في منطقة آسيا والمحيط الهادئ، حيث بدأت البنية الأساسية لحلف “الناتو” في “الزحف” وحيث يجري إنشاء كتل عسكرية سياسية ضيقة لمواجهة الصين وروسيا، وهو ما من شأنه أن يقوّض البنية الأمنية الشاملة تحت رعاية رابطة دول جنوب شرق آسيا “آسيان”.

من ناحية أخرى، فإن الغرب لا يتذكر “التعاون العالمي” الذي يدعو إليه الأمين العام للأمم المتحدة فحسب، بل إنه يتهم روسيا والصين وبيلاروس وكوريا الشمالية وإيران علنا في وثائق عقيدته بقسوة بخلق تهديدات لهيمنته. وقد تم الإعلان عن هدف إلحاق “هزيمة استراتيجية” بروسيا، تقريبا كما خططت لندن وواشنطن في مايو 1945، عند تطويرهما للعملية “غير المعقولة” Operation Unthinkable لتدمير الاتحاد السوفيتي (وكان هذا حتى قبل نهاية الحرب العالمية الثانية).

حول الأسباب الجذرية للأزمة الأوكرانية

في منتصف القرن العشرين، أبقى الاستراتيجيون الأنغلوساكسون خططهم العدوانية سرا تحت حراسة مشددة، إلا أن الجيل الحالي لا يخفي خططه، فيما تجري الآن حسابات هزيمة روسيا على أيدي نظام كييف غير الشرعي، الذي يتسم بالنازية الجديدة في جوهره. وهناك عدد من الحقائق حول هذا الموضوع. وقد روجت كييف بقوة لأفكار النازيين الجدد، وأعادت كتابة تاريخ الحرب العالمية الثانية، وزرعت المشاعر القومية المتطرفة بين قطاعات واسعة من المجتمع الأوكراني، ما أدى إلى استدامة ذكرى النازيين والمتواطئين معهم، بل وهناك حقائق عن الاقتباس المباشر للرموز النازية. ويتعين علينا أن نتذكر أيضا الجرائم طويلة الأمد التي ارتكبتها “كتائب المتطوعين” غير النظامية التي تشكلت من أتباع الأيديولوجية القومية الأوكرانية المتطرفة. وحتى الهياكل الدولية، التي تتغاضى عن كييف، بما في ذلك مكتب المفوض السامي لحقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة، لم يتمكن من التزام الصمت إزاء الفظائع التي ترتكبها.

لقد تحولت أوكرانيا إلى دولة إرهابية تروّع مواطنيها في الداخل والخارج لمدة عشر سنوات. وبرغم ذلك، فإن الغرب يسمح للمجلس العسكري في كييف بأن يفعل ما يريد ويغدق عليه مبالغ ضخمة من المال، على هذه الخلفية، فإن تصريحات رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين بأن أوكرانيا تحمي القيم العزيزة على الاتحاد الأوروبي، تعد دالة للغاية. كما رسم رئيس المجلس الأوروبي شارل ميشيل أوجه التشابه بين أوكرانيا والقيم الأوروبية. ومن الصعب تفسير مثل هذه الاكتشافات إلا بوصفها مظهرا للجوهر النازي العميق للطبقة السياسية الأوروبية، التي تبتعد حرفيا خطوة واحدة عن إلقاء نفسها في مغامرة انتحارية ضد روسيا. ترى هل يجدر بنا الحديث عن عبثية وخطورة فكرة محاولة “القتال حتى النصر” مع قوة نووية كروسيا؟

ولا تقل سخافة عن تعويذة أسياد كييف الغربيين حول “لا بديل” للمفاوضات على أساس “صيغة زيلينسكي” سيئة السمعة، وفي دفاعه عن هذه الصيغة/الإنذار المحكوم عليه بالفشل، لا يتردد الغرب في اللجوء إلى ميثاق الأمم المتحدة، والمطالبة بضمان وحدة أراضي أوكرانيا.

وتجدر الإشارة هنا إلى أن المادة الأولى من الميثاق تنص على الالتزام باحترام مبادئ المساواة وتقرير الشعوب لمصيرها، وهو ما كان بمثابة الأساس القانوني الدولي لعملية إنهاء الاستعمار (التي لم تكتمل بعد، بغض النظر عن مدى مقاومة فرنسا وبريطانيا وغيرهما من العواصم السابقة لها). وفي عام 1970، قررت الجمعية العامة للأمم المتحدة في “إعلان مبادئ القانون الدولي” أن وحدة الأراضي مكفولة للدول التي تحترم حكوماتها حق الشعوب في تقرير المصير، وبالتالي تمثل جميع السكان الذين يعيشون على أراضيها. لقد كان هذا قرارا اتخذته الجمعية العامة بالإجماع بعد سنوات عديدة من المناقشات الصعبة. وليست هناك حاجة لإثبات أن النازيين الجدد الأوكرانيين، الذين استولوا على السلطة في كييف، نتيجة للانقلاب الدموي المدعوم من الولايات المتحدة وحلفائها في فبراير 2014، لم يمثلوا ولا يمثلون السكان الروس في شبه جزيرة القرم ودونباس ونوفوروسيا.

إن الزعماء الغربيين المهووسين بقضايا حقوق الإنسان في أي مناسبة، يلتزمون الصمت التام بشأن هذه الحقوق عندما يتعلق الأمر بالتصرفات العنصرية التي يرتكبها عملاؤهم في كييف. وفي ضوء هذا النسيان، دعونا نتذكر شرطا آخر لنفس المادة الأولى من ميثاق الأمم المتحدة: احترام الحقوق والحريات الأساسية لأي شخص، بغض النظر عن العرق أو الجنس أو اللغة أو الدين. لقد تمت إبادة حقوق الروس والأشخاص المنخرطين في الثقافة الروسية بشكل منهجي بعد الانقلاب في كييف. واللغة الروسية في أوكرانيا محظورة بحكم القانون في جميع المجالات: في التعليم والإعلام والفن والثقافة، وحتى في الحياة اليومية. وتم اعتماد قانون مؤخرا بحظر الكنيسة الأرثوذكسية الأوكرانية القانونية، فيما يحارب نظام كييف كل ما يتعلق بالعالم الروسي. ولسنوات عديدة كانت المجموعة السكانية الأكثر تعرضا للتمييز في أوكرانيا هم المواطنون الناطقون بالروسية. وفي ظل هذه الظروف، فإن تعويذة فلاديمير زيلينسكي حول الحاجة إلى احترام ميثاق الأمم المتحدة هي بمثابة استهزاء صريح.

إن الانتهاكات الصارخة المذكورة أعلاه لحقوق الروس المنصوص عليها في ميثاق الأمم المتحدة، إلى جانب التهديدات لأمن روسيا، بل وأوروبا بأكملها، والتي تأتي من نظام كييف وأولئك الذين يجرونها إلى حلف “الناتو”، هي ما يمثل الأسباب الجذرية للأزمة الأوكرانية الراهنة، التي تهدف العملية العسكرية الروسية الخاصة بأوكرانيا القضاء عليها، لحماية أمنها وحاضر ومستقبل المواطنين على أرض أجدادهم.

ونحن نقدر الرغبة الصادقة لعدد من شركائنا في تعزيز مبادرات الوساطة بأفضل النوايا، ونحترم تركيزهم البناء على النتائج، على النقيض من “صيغة زيلينسكي” ذات الطريق المسدود. وفي الوقت نفسه، نحث أصدقاءنا، في جهودهم الإضافية، على أن يأخذوا في الاعتبار بشكل كامل الحقائق المذكورة حول الأسباب الحقيقية للوضع الراهن. وبدون القضاء على هذه الأسباب، لا يمكن تحقيق السلام العادل على أساس ميثاق الأمم المتحدة، وهو ما حدده الرئيس فلاديمير بوتين في خطة تسوية واقعية، 14 يونيو 2024، بينما أظهر رئيس الدولة مرة أخرى، وبشكل مقنع، حسن نوايا روسيا للتوصل إلى حلول تفاوضية، والتي “انقلبت” عليها كييف ورعاتها في انقلاب 2014، ثم في انهيار اتفاقيات مينسك 2015، واتفاقيات إسطنبول 2022.

نحو نظام دولي أكثر عدالة

إن المستوى غير المسبوق من الغطرسة والعدوانية للسياسة الغربية تجاه روسيا لا يبطل فكرة “التعاون العالمي” التي يروج لها الأمين العام للأمم المتحدة فحسب، بل ويعيق أيضا بشكل متزايد عمل نظام الحوكمة العالمية بأكمله، بما في ذلك داخل مجلس الأمن. وهذا ليس خيارنا، وتبعات هذا المسار الخطير لا تقع على عاتقنا. لكن، إذا لم يتوقف الغرب، فإن العواقب الوخيمة ستطال الجميع.

ومن الواضح للأغلبية العالمية الآن أن المواجهة والهيمنة لن تحل أي مشكلة عالمية. فهي لا تؤدي إلا إلى تقييد العملية الموضوعية لتشكيل نظام عالمي متعدد الأقطاب، يقوم على المساواة في الحقوق بين الدول الكبيرة والصغيرة على حد سواء، واحترام قيمة الإنسان، والمساواة بين الرجال والنساء، وحق الشعوب في تقرير مصيرهم بأنفسهم. وكل هذا أيضا من ميثاق الأمم المتحدة، فضلا عن مبدأ عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول ذات السيادة، والذي وقفت الولايات المتحدة وأتباعها أمام تأكيده، لخجل أعضاء المنظمة الدولية، في نفس “قمة المستقبل”، عندما تم اعتماد الميثاق ذي الصلة.

 وفي حديثه 18 سبتمبر 2024 أمام المشاركين في المنتدى النسائي الأوراسي الرابع بمدينة بطرسبورغ، أكد الرئيس الروسي فلاديمير بوتين على ضرورة توحيد الجهود باسم التنمية المستدامة والأمن العالمي المتساوي وغير القابل للتجزئة. ولن يتم حل المشكلات الأكثر تعقيدا التي تواجه البشرية جمعاء إلا معا، مع مراعاة مصالح بعضنا البعض، ويتعين على الغرب أن يدرك هذه الحقيقة، وأن يتخلى عن عاداته الاستعمارية الجديدة.

ويؤكد جنوب وشرق العالم بشكل متزايد على حقوقهم في المشاركة الكاملة في عمليات صنع القرار عبر كامل نطاق جدول الأعمال الدولي. وقد أصبح هذا الأمر ذا أهمية متزايدة في الوضع الذي يعمل فيه الغرب بشكل منهجي على تدمير نموذج العولمة الذي أنشأه.

 كما يجري تعزيز دور الجمعيات المشتركة بين الدول في آسيا وإفريقيا وأمريكا اللاتينية. ومن بينها “منظمة شنغهاي للتعاون” والاتحاد الاقتصادي الأوراسي، والاتحاد الإفريقي، وجماعة دول أمريكا اللاتينية ومنطقة البحر الكاريبي، وجامعة الدول العربية، ورابطة دول جنوب شرق آسيا وغيرها الكثير.

وتجري اتصالات بين هياكل التكامل الإقليمي فيما بينها ومع رابطة “بريكس”، ما يخلق فرصا لتنسيق نهج الاتفاق على آليات التعاون والتنمية متبادلة المنفعة، والتي لا يمكن السيطرة عليها من خلال التأثيرات والإملاءات الخارجية السلبية. ولا بد من أخذ كل هذه العمليات الموضوعية في الاعتبار في أنشطة مجموعة الدول العشرين، حيث لم يعد بوسع مجموعة الدول السبع أن “تمسك بالزمام”.

حول الهياكل الأمنية في أوراسيا

يتعين علينا اليوم أن نلقي نظرة جديدة على السبل الكفيلة بضمان الأمن في مختلف المناطق، واستخلاص الدروس من التجربة المحزنة المتمثلة في النماذج الأمنية الأوروبية الأطلسية، التي وضعها الغرب لخدمة خططه التوسعية.

وقد طرحت روسيا مبادرة لتشكيل بنية شاملة للأمن المتساوي وغير القابل للتجزئة في أوراسيا. وهو طرح مفتوح لجميع الدول والمنظمات في قارتنا المشتركة المستعدة للعمل معا لإيجاد حلول مقبولة بشكل عام، باستخدام الترابط والمزايا التنافسية الطبيعية للفضاء الأوراسي الواحد. وسيتم تخصيص مؤتمر دولي في مينسك، في الفترة من 31 أكتوبر وحتى 1 نوفمبر لمناقشة هذه القضية.

إن تشكيل مساحة من الأمن المتساوي وغير القابل للتجزئة في أوراسيا يشكل حاجة ملحة في ضوء العمليات الواسعة النطاق التي تتكشف في المنطقة الكبرى. والأمر لا يتعلق فقط بحقيقة أن تدهور الوضع العسكري السياسي الناجم عن مسار “الغرب الجماعي” لتقويض التطور السيادي للقوى الرائدة في القارة لا يمكن أن يكون في حد ذاته مقبولا بالنسبة للدول الأوراسية المسؤولة. بل إن النقطة الهامة هنا هي أن المخاطر المتزايدة المتمثلة في تصاعد بؤر التوتر الساخنة إلى صراع واسع النطاق تدعو إلى التشكيك في التطوير التدريجي الإضافي لكل أوراسيا، حيث نمو الاقتصاد العالمي مضمون إلى حد كبير، فيما يعد حل القضايا الأمنية شرطا لا غنى عنه لمزيد من التنمية الديناميكية لبلدان القارة، وإطلاق العنان لإمكانات المشاريع المتعددة الأطراف بمشاركتها.

وتستند مبادرتنا إلى فهم حاجة الدول والهياكل المتعددة الأطراف في المنطقة الأوراسية إلى تحمل المسؤولية عن ضمان أمنها وفقا لمبدأ “المشكلات الأوراسية-حلول أوراسية”، وبالتالي فإن الأهداف الاستراتيجية لبنيتنا المقترحة هي تسوية التناقضات القائمة في القارة من قبل الدول الأوراسية نفسها، ومنع الصراعات في المستقبل، فضلا عن القضاء على الوجود العسكري المزعزع للاستقرار للاعبين من خارج منطقة أوراسيا. ونحن على قناعة بأن الدول المهتمة باستقرار الوضع العسكري السياسي على المدى الطويل سوف تشارك في حل القضايا الأمنية على أساس الاتفاق على نهج مشترك. ونحن نرى قضايا الاقتصاد والرفاهية الاجتماعية والتكامل والتعاون متبادل المنفعة وحل المشكلات المشتركة كجزء لا يتجزأ من العمل في مجال الأمن الأوراسي.

في الوقت نفسه، نحن لا ننخرط في “تسييج” أو استبعاد الدول الأوروبية من الحوار، بشرط أن تكون مهتمة بصدق وألا تشارك في أعمال مدمرة موجهة ضد بلدان أخرى في أوراسيا: القارة الممتدة من لشبونة إلى فلاديفوستوك، ومن موسكو إلى الرياض ونيودلهي وبكين وجاكرتا.

حول إصلاح مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة

لقد جرت مناقشات مفتوحة في مجلس الأمن، في يوليو من هذا العام وبناء على اقتراح من روسيا، بشأن قضية بناء نظام عالمي أكثر عدلا واستدامة. ومن المهم التأكيد على مواصلة النقاشات الجارية سواء في الأمم المتحدة أو في أماكن أخرى. في الوقت نفسه، من الواضح لنا تماما أن النظام العالمي العادل يفترض مسبقا توسيع تمثيل جنوب وشرق العالم في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، أي دول إفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية. وقد أكدنا من جديد موقفنا الداعم لترشيح البرازيل والهند، وأكدنا في الوقت نفسه على مبادرات الاتحاد الإفريقي بشأن هذه القضية. ودعم الأفكار المتعلقة بمقاعد إضافية للدول الغربية وحلفائها، ممن لديهم تمثيل زائد بالفعل في مجلس الأمن، هو أمر غير منطقي، بل ومناف للعقل.

ومع ذلك، لا يعتقد الجميع بأن الشيء نفسه يبدو عادلا كما هو بالنسبة لنا. فهناك الكثير من الآراء المطروحة بشأن إصلاح مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة. لكن أكثر ما فاجأ الجميع هو تصريح أنطونيو غوتيريش بأن أوروبا ممثلة تمثيلا زائدا في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، حيث أن أعضاءه الدائمين يشملون فرنسا وبريطانيا وروسيا. وهذه الصورة الجيوسياسية للعالم لا تبتعد عن الواقع الحديث فحسب، بل إنها تشوهه تماما: لا سيما بعد خروج لندن من الاتحاد الأوروبي ورفضنا الاندماج في المشاريع الأوروبية الأطلسية وعموم أوروبا.

***

في مايو 2025، سيتم الاحتفال بالذكرى الثمانين للنصر في الحرب العالمية الثانية. لقد وقع عشرات الملايين من الأشخاص ضحايا لسياسات الإبادة الجماعية للرايخ الثالث، بما في ذلك 27 مليون ممثل لجميع شعوب الاتحاد السوفيتي. ومثل هذه الجرائم لا تسقط بالتقادم، كما لا يوجد أي مبرر أخلاقي لأولئك الذين يحاولون اليوم تبرئة الجلادين النازيين والمتعاونين معهم وأتباعهم الحاليين، سواء كان ذلك في أوكرانيا أو دول البلطيق أو كندا وغيرها من البلدان.

اليوم، وكما حدث أثناء الحرب العالمية الثانية، يواجه المجتمع الدولي مرة أخرى تحديات خطيرة تتطلب بذل جهود مشتركة، بدلا من المواجهة والتعطش للهيمنة العالمية. وستقف روسيا دائما إلى جانب العمل الجماعي، إلى جانب الحقيقة والقانون والسلام والتعاون من أجل إحياء المثل العليا التي أرساها الآباء المؤسسون للأمم المتحدة. وهذا هو هدف عمل مجموعة أصدقاء الدفاع عن ميثاق الأمم المتحدة، التي تم إنشاؤها بمبادرة من فنزويلا. وتظل أهدافها ومبادؤها وثيقة الصلة تماما، والأمر الأساسي هنا هو أن الجميع، بلا استثناء، لا بد وأن يسترشدوا بهذه المبادئ ليس بشكل انتقائي، فيختارون القليل منها فقط “من القائمة”، بل في مجملها وترابطها، بما في ذلك مبدأ المساواة في السيادة بين الدول. ومن ثم، فمن خلال العمل على إيجاد توازن عادل بين المصالح الوطنية المشروعة لكل البلدان، سوف يكون بوسعنا تحقيق هدف الأمم المتحدة المكتوب في الميثاق: “أن تكون مركزا لتنسيق أعمال الأمم”.

المصدر: الموقع الرسمي لوزارة الخارجية الروسية

أخبار مرتبطة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى