لإغلاق كل الطرق المؤدّية إلى دمشق: واشنطن تُشهر كل أسلحتها ومنها “الكيماوي”
كتب الصحافي جو غانم ل”ميادين نت” :
لم تكن العودة الأميركية (الدولية) الأخيرة إلى ملفّ “الكيماوي” في سوريا، وتسعيره داخل أروقة المنظمات الأممية وعلى مختلف المنابر السياسيّة والإعلاميّة بشكل واسع وخطير، مُستغرَبة أبداً، فقد أيقنت إدارة الرئيس الأميركيّ، جو بايدن، أنّ الخيوط بدأت تفلت من بين أصابعها بشكلّ جدّي في سوريا والمنطقة، خصوصاً بعد أنْ رفضت أنقرة التراجع عن مسار الصلح مع دمشق بهدف الوصول إلى تطبيع العلاقات بين البلدين، وأكّدت ضرورة حضور إيران بشكل فاعل وأساسيّ في هذا المسار.
وأيضاً، بعد أنْ بدأت بعض الدول العربية بتوسيع هامش مناوراتها السياسية في اتّجاه سوريا، متجاوزة، ولو قليلاً، الخطوط الحمر الأميركية، وذلك تحت ضغط المتغيّرات الدولية على الساحة العالمية التي بدأت منذ عهد دونالد ترامب، والتي بلغت ذروتها بعد احتدام الصراع على الأرض الأوكرانية وامتداد تأثيراته إلى كلّ ساحة مؤهّلة للصراع على امتداد العالم، وحاجة تلك الدول التي تزداد إلحاحاً يوماً بعد يوم، إلى الاقتراب من موسكو وطهران وحليفتهما الناجية بقوّة القتال والصمود، دمشق، ومحاولة ترتيب وضع المنطقة الذي جمّدته واشنطن منذ سنوات عند نقطة ذروة الصراع السياسيّ والاقتصاديّ، والعسكري في أكثر من بقعة استراتيجية من المنطقة وعلى رأسها سوريا واليمن، بكلّ ما لهاتين الدولتين من أهمية وتأثيرٍ جيوسياسيّ بالغ على المحيط والإقليم.
وباختصار، بعد وصول الجميع في المنطقة إلى مرحلة الحاجة الماسّة إلى حراكٍ سياسيّ ـ اقتصاديّ ينقذهم جميعاً من ارتدادات “عشريّة النار” وتداعياتها التي بدأت مع ما سمّته واشنطن “الربيع العربيّ”، والنجاة من عشرية دمارٍ عالميّة جديدة دشّنتها واشنطن ورفاقها الذيليّون أنفسهم في “الناتو”، في أوكرانيا، في الوقت الذي شهد فيه هؤلاء جميعاً، ارتقاء الصين إلى مقدّمة العالم، وعودة موسكو بقوة إلى ساحة التأثير الدولي، بل وظهور جنودها المدجّجين بالسلاح قرب حدود بعض تلك الدول، وإقامتهم قواعد عسكرية في قلب المنطقة، وتحوّلهم إلى لاعب أساسيّ لا يمكن تجاوزه على الطاولة السياسية الإقليمية، بما في ذلك حضورهم في مواجهة واشنطن في الشرق والشمال السوريين، ووجودهم الرئيسيّ في الملفّ السوريّ ـ التركيّ الذي يؤرّق الإدارة الأميركية هذه الأيام ويدفعها إلى التصعيد على كل الجبهات.
وفوق كلّ هذا، بلوغ أحلام القضاء على طهران، مرحلة اليأس، خصوصاً أنّ جنود الثورة في إيران، بات بالإمكان رؤيتهم بالعين المجرّدة إلى جانب رفاقهم من جنود “محور المقاومة” العرب، على بُعد خطوات من الحدود الفلسطينية، فيما يُقاتل رفيقهم وحليفهم اليمنيّ حتى اللحظة عند نقطة حدوده، بل يُهاجم ويتطوّر ويتقدّم بطرقٍ ووسائل وأساليب لم يكن أكثر المتشائمين بين هؤلاء يتوقّعها.
هذه العوامل، وغيرها، أفضت إلى الحراك الأميركيّ الأخير في وجه دمشق وحلفائها، بعد بلوغ المساعي الروسية ـ الإيرانية الهادفة إلى تحقيق تسوية سياسية مع تركيا، والتي تلقّفها الرئيس التركي رجب طيب إردوغان وذهب فيها أبعد ممّا توقّعه الجميع وما تُؤمّنه ظروف الواقع الميدانيّ، مرحلة متقدمة جدّاً، سوف تؤثّر، إنْ نجحت، في وجود قوات الاحتلال الأميركيّ على الأرض السوريّة، وتُسقط الورقة الكردية من يد واشنطن، وبالتالي تؤثّر في نفوذ واشنطن في المنطقة، بعد أنْ تُهزم في هذا الملف أمام الروس والإيرانيين والسوريين.
وقبل أنْ تُعيد الإدارة الأميركية إحياء ملفّ “الكيماوي” في سوريا، الذي يُذكّرنا بالسيناريو الأميركيّ الذي قاد إلى جريمة العصر في العراق العام 2001، والذي تريد واشنطن أنْ تُبلِغه “الفصل السابع” بعد تقديم “إثباتات” تعتمد على “التقنيات” الكارثيّة ذاتها التي اتّبعها كولن باول قبل أكثر من 20 عاماً ( مع فارق شكل وتأثير الحضورين الروسيّ والصينيّ هذه المرّة )، كانت الإدارة الأميركية قد بدأت باتّخاذ خطوات في جميع الاتّجاهات، لتعطيل المسار التركيّ ـ السوريّ، ومنع أيّ انفتاح عربيّ أو دوليّ على الحكومة السوريّة.
إلى جانب العودة إلى الوعود بإنعاش منطقة “الإدارة الذاتية” وضخّ الأموال والاستثمارات فيها، وتأمين الدعم الدولي سياسيّاً واقتصاديّاً، والعمل على إصدار الاستثناءات من قانون العقوبات الأميركي “قيصر”، لتلك المنطقة تحديداً، ومحاولة ترتيب “البيت الكرديّ” من خلال استبعاد بعض العناصر والقيادات المرتبطة بـ “حزب العمال الكردستاني”، لاسترضاء أنقرة أو قطع الطريق عليها، وإجراء حوار كرديّ ـ كرديّ يضمن انضمام بعض الأحزاب الكردية التي لم تنضوِ تحت عباءة “الإدارة الذاتية” سابقاً، ووصل الحبل الكردي بين القامشلي وكردستان العراق، بهدف استنساخ التجربة الكردية العراقية في سوريا، لتصعيب الأمور على دمشق وروسيا وطهران من جهة، وإكساب الكرد الانفصاليين ثقة وقوة جديدتين من جهة أخرى، تمنعهم من سلوك طريق دمشق.
إلى جانب هذا كلّه، عمدت واشنطن إلى إحداث تغييرات كبيرة في خريطة انتشار قوات احتلالها في الشرق السوريّ، وإعادة ترتيب الوجود العسكريّ التابع لـ”قسد”، إذ أدخلت قوات عربية عشائرية كانت “قسد” قد أخرجتها من الساحة سابقاً. واتّخذت واشنطن من محافظة الرقة المدمّرة (التي دمّرتها القوات الأميركية ذاتها في العام 2017) منطلقاً لتلك التغييرات، ولعملية المواجهة الحاسمة تلك مع موسكو ودمشق وطهران والمشروع التركي ـ السوريّ. فأعادت افتتاح قواعدها العسكرية القديمة هناك، ونشرت قواتها على مختلف خطوط التماس مع قوات الجيش العربي السوري وحلفائه من جهة، ومع القوات التركية من جهة أخرى، مع تطعيم هذا الانتشار بقوات “لواء ثوار الرقة” الذي أعادته واشنطن إلى الحياة.
وتوافد جنرالات الجيش الأميركيّ ومسؤولو الملف السوري في الإدارة الأميركية، بمن فيهم المبعوث الأميركي الخاص بشماليّ سوريا، نيكولاس غرينغر، إلى المدينة وريفها، طوال الأسابيع الماضية، في سباق مع الزمن لضمان ضمّ الرقة وريفها إلى مشروع “الإدارة الذاتية” وتمتين هذا الضمّ بكل الوسائل الممكنة.
ويأتي هدف تجذير الأمر الواقع الكردي الانفصاليّ، وقطع طريق “إم 4″، على رأس أولويات واشنطن في خطتها الحالية لإفشال المساعي السورية – الروسية – الإيرانية العاملة على تحقيق انتصار على جبهة أنقرة – دمشق، والاتجاه شرقاً لتصفية المشروع الكردي الذي تعتمد عليه واشنطن كركن أساسيّ لخطتها الخاصة بالشرق السوري، خصوصاً أنّ أول مخرجات المسار السوري – التركيّ، هو فتح طريق “إم 4” الممتد من اللاذقية إلى الحدود العراقية السورية عند بلدة اليعربية في أقصى الشرق، مروراً بحلب والرقّة، وهذا ما لن تسمح به واشنطن إنْ استطاعت.
وإلى جانب نشاطها الميدانيّ الحثيث والمستجد في الرقة، وسعيها السياسيّ لتنظيم شؤون “الإدارة الذاتية” وتقويتها، تحاول واشنطن، ومعها لندن، تحريك الرمال الراكدة في مخيّم “الركبان” الواقع على أطراف البادية السورية عند مثلث الحدود السورية – الأردنية – العراقية، وبالقرب من قاعدة “التنف” الأميركية – البريطانية، حيث اجتمع مسؤولون أميركيون وبريطانيون مع قادة ما يُسمّى بـ “جيش سوريا الحرّة” وبعض الفعاليات المدنية والعشائرية في المخيّم، لأكثر من مرة خلال الشهر الماضي، حاملين وعوداً جديدة دفعت بقائد هذا الفصيل، محمد فريد القاسم، إلى إعلان رغبته في إقامة “إدارة ذاتية” في تلك المنطقة، مشابهة للواقع الكردي في الشرق، وفي هذا إشارة واضحة إلى الأهداف الأميركية – البريطانية المستجدة في الميدان السوريّ، والتي تعود بنا إلى مخطط أميركيّ غربي – إسرائيلي سابق، يعتمد إقامة شريط عازل يحوي عدة كانتونات انفصاليّة تحميها القواعد الغربية، يمتد من الحدود الأردنية في الجنوب إلى أقصى الشرق، ليحاصر سوريا ويعزلها عن العراق والأردن، ويكون منطلقاً دائماً لهجمات عسكرية على قواعد الجيش السوري وحلفائه العاملين معه على الأرض السورية.
وهذا بالتزامن مع إيعاز واشنطن لحكومة العدو الإسرائيليّ بقصف شاحنات سورية وعراقية تحمل مساعدات غذائية إيرانيّة، كانت تعبر الحدود يوم الأحد 29 كانون الثاني / يناير الفائت.
من الواضح، بناء على تلك المعطيات والمستجدات، أنّ واشنطن وحلفاءها الغربيين والإسرائيليين، قد قرروا تصعيد المواجهة على الأرض السورية، وهي مواجهة تستهدف منها واشنطن، كسر موسكو على هذه الساحة بالدرجة الأولى، وإفشال مساعي الانفتاح التركي والعربي على دمشق، فيما يأتي ضرب وإضعاف دمشق وطهران والمقاومة الإسلامية في لبنان، كأهداف إسرائيلية أولى، وتجتمع كل هذه الأهداف عند لندن وعموم “الناتو” في الغرب.
وعليه، ابتداءً من الرقّة والتنف والشمال والشرق السوريين، وصولاً إلى أروقة المنظمات الدولية والمساعي الأميركية الغربية لاتّهام دمشق بالقيام بضربات كيماوية في دوما العام 2018، فإنّ الأفق مفتوح على تصعيد عسكريّ وسياسيّ جديد على الساحة السورية، يستلزم من دمشق وحلفائها مواجهته بتصعيد مماثل قد يقود إلى مواجهة مباشرة مع الأميركيين في الميدان السوريّ، وهو المتوقع في الأيام والأسابيع القادمة، وقد تكون القواعد الأميركية في الشرق والبادية عرضة لارتفاع كبير في درجة حرارتها في أقرب وقت ممكن، وسط هذا الشتاء القارس الذي لا يجد فيه السوريون ما يوقدونه لتدفئة أنفسهم ومنازلهم، وهم يشاهدون صهاريج قطّاع الطرق الأميركيين تحمل نفطهم خارج الحدود.
كذلك من المتوقع أنْ تستعر المواجهة على الجبهة السياسية، لجهة دفع المسار التركي – السوريّ في اتّجاه تحقيق خطوات متقدمة، خصوصاً بعد الإعلان التركي، على لسان إردوغان نفسه، عن وجوب عقد اجتماعات تركية – سورية – روسية – إيرانية مشتركة في القريب العاجل، ووجود تسريبات وتلميحات عربية عن انضمام بعض الدول العربية (مصر والسعودية إلى جانب الإمارات) إلى هذا المسار.
وبالتوازي، ربما كان الإعلان السوري العراقيّ عن اتفاق يقضي بدخول متبادل للشاحنات على جانبيّ الحدود، وخصوصاً عبر معبر “القائم”، وذلك بعد العدوان الإسرائيليّ الأسبوع الماضي، هو واحد من أوْلى الردود السياسية من قوى محور المقاومة.
إن الآراء المذكورة في هذه المقالة لا تعبر بالضرورة عن رأي “رأي سياسي” وإنما تعبر عن رأي صاحبها حصرا