كييف وضغوط واشنطن
كتب كمال بالهادي في صحيفة “الخليج “: الحديث عن ضغوط واشنطن على كييف للقبول بمفاوضات مباشرة مع الروس، ليس مجرد تسريبات تنقلها وسائل إعلام مقربة من البيت الأبيض، وإنما حقائق جديدة فرضها الميدان، وفرضتها الأوضاع الاقتصادية في كل أنحاء العالم. فهل نرى قريباً بدء مفاوضات تنهي الحرب؟
كل ما نشرته صحيفة «وول ستريت جورنال» عن لقاء مستشار الأمن القومي الأمريكي جاك سوليفان في كييف، كان يصبّ في اتجاه واحد وهو أن واشنطن طلبت من زيلينسكي تقديم مطالب معقولة للتفاوض مع روسيا.
كما شددت الصحيفة على أن الأمريكيين يضغطون على الرئيس الأوكراني من أجل عدم وضع شرط مسبقة للتفاوض مع موسكو، على رأسها شرط عدم التفاوض مع بوتين. وكل التحاليل والقراءات ذهبت إلى النقطة الأهم وهي «المطالب المعقولة»، فما هي ضوابط العقلانية التي يُطلب من الرئيس الأوكراني الالتزام بها.
صحيح أن الغرب في هجماته الإعلامية على موسكو، يعلن التزامه بالدفاع عن أوكرانيا، وصحيح أن الأموال والأسلحة تذهب إلى كييف، بينما تلعب الأقمار الاصطناعية أدوارها كاملة في تقديم المعلومات الاستراتيجية التي تساعد الجيش الأوكراني على الصمود في وجه القوة الروسية، ولكن الجميع بات يسأل: إلى متى سنظل على هذه الحال؟
روسيا لن تتراجع مهما كان الثمن وخيارها الأكثر شراسة هو السلاح النووي الذي هدّد بوتين باستعماله في ثلاث مرات، والغرب يدرك أن الرئيس الروسي لا يتراجع ولا يستسلم، إذن هي حرب خاسرة للجميع بكل المقاييس.
بعد مضيّ تسعة أشهر كاملة على الحرب حان وقت التفاوض وحان وقت التعقّل في وقت يرقص فيه زيلينسكي طرباً لاستعادة خيرسون المدينة وليس المقاطعة بأكملها، بينما يتم دكّ كييف بمئات الصواريخ وحرمان الملايين من الكهرباء ونحن على أبواب فصل الشتاء الأكثر قسوة في هذه المنطقة. هذا الواقع يفترض وجود جملة من الاتجاهات في مسألة المفاوضات.
الأولى هو التيار الرافض لأي تفاوض ويقوده زيلينسكي ومن ورائه اليمين المتطرف، وأطراف من الإدارة الأمريكية التي ترى أن التفاوض مع روسيا هو عنوان هزيمة، وهذا الشقّ قد يكون المسؤول عن إثارة مسألة الصاروخ الذي أصاب بولندا، من أجل تصعيد الموقف وقطع الطريق أمام مفاوضات حقيقية مبنية على معطيات الواقع لا على أحلام من تسميهم روسيا النازيين. والرئيس البولندي قال: «لا نمتلك أدلة دامغة بشأن مصدر إطلاق الصواريخ التي سقطت على أراضينا»، في الوقت الذي هبّ فيه الإعلام الغربي إلى اتهام روسيا بوقوفها وراء القصف.
أما التيار الثاني وهو المؤمن بضرورة وضع نهاية لهذه الحرب التي أربكت الاقتصاد العالمي وتتصدّره عدة أسماء، مثل الرئيس الفرنسي ماكرون الذي قال إنه لا بد من التفاوض مع بوتين، ولا بدّ من بذل مزيد من الجهود لمنح فرصة للتفاوض ووضع نهاية لهذه الحرب. وهذا الشق يتوسع في أوروبا، فجوزيف بوريل رئيس الدبلوماسية الأوروبية قال: «إننا لسنا في وضع لاتخاذ عقوبات جديدة ضد روسيا»، وهي خطوة تمثل إشارة إلى أن الأوروبيين الذين اكتووا بنار هذه الحرب قد اكتشفوا أخيراً ألاّ بديل عن وقف الحرب؛ لأن التكتيك العسكري الروسي سيضربهم في مقتل. فاستهداف البنية التحتية، وخاصة مواقع إنتاج الكهرباء، سيعني آلياً هجرة الملايين من الأوكرانيين إلى أوروبا، إضافة إلى أحد عشر مليوناً الذين وصلوا إلى العواصم الأوروبية منذ بدء الحرب في نهاية فبراير/شباط الماضي.
الأمريكيون متشبّثون بسياسة اللاحرب مباشرة مع روسيا، ولذلك يُبقون قنوات اتصال لتحييد خيار الحرب المباشرة، وهم يريدون التوصل إلى تفاهمات مع الصين لعدم تصعيد الصراع بينهما؛ لأنهم في نهاية المطاف لن يتمكنوا من مواجهة هذين القطبين دفعة واحدة لا في الزمان ولا في المكان.
وهنا يأتي السؤال: إذا لم يكن خيار الحرب مطروحاً لحسم مسألة زعامة العالم، فلماذا الاستمرار في التورط في حرب أوكرانيا؟ وهنا بدأت الضغوط على كييف للقبول بالتفاوض، فالجميع بات يستعجل نهاية هذه الحرب. وبين عمليات الكرّ والفرّ التي ستسبق الهدنة، يحاول كل طرف أن يضع حدوداً لعمليات التفاوض.
زيلينسكي رقص في خيرسون مستعرضاً انتصارات الجيش الأوكراني، ولكن الصواريخ الروسية سبقته إلى كييف في استعراض روسي للقوة لإجبار الرئيس الأوكراني على عدم التوسع في أحلامه. أما في واشنطن فإن التضخم يُشعر الأمريكيين بأنهم ضحايا حرب لا مصلحة لهم فيها، وهذا ما يزيد من الضغوط على بايدن