رأي

كيف وقعت دولة الاحتِلال في كمينِ المُقاومة في مخيّم جنين؟

جاء في مقال للكاتب عبد الباري عطوان في صحيفة “رأي اليوم”:

تُتحفنا مدينة جنين وانتِصاراتها على الجيش الإسرائيلي الذي لا يَقهَر إلّا الجُيوش العربيّة الرسميّة الخانعة الذّليلة، وتُفاجئنا دائمًا بإبداعاتها العسكريّة المُتتالية، التي تتفوّق من خِلالها بمراحلٍ على قوّات الأمن الإسرائيليّة التي تدّعي قِياداتها بأنّها الأكثر تقدّمًا وخبرةً في العالم بأسْره، ورُغم إمكانيّاتها المحدودة، والحِصار الخانِق المَفروض عليها.

هؤلاء الشّباب المُقاوم يُفاجئوننا يومًا بعد يوم بمُعجزاتهم في التصدّي لغارات الاحتِلال وهجماته واغتِيالاته واعتِقالاته، ويزدادون خبرةً وقوّةً، ويُربكون العدوّ، ويَقلِبون كُل مُعادلاته رأسًا على عقب، ويُثبتون أنهم أكثر إرادةً ودهاءً منه بمراحلٍ رُغم إمكانيّاتهم القتاليّة البسيطة، وتَواطُؤ الأنظمة والسّلطة مع الاحتِلال ضدّهم.

اليوم الاثنين، وقبل صلاة الفجر اقتحمت الدبّابات الإسرائيليّة مخيّم جنين الذي لا تَزيد مساحته عن كيلومتر مربّع، بهدف اعتقال شابّين مُقاتلين، فوقعت في كمينٍ “مُلغّم” جرى نصبه بعناية، جرى تفجير عبوته المزروعة البالغ وزنها حوالي 40 كيلوغرامًا عن بُعد، ممّا أدّى إلى وقوع قتلى وجرحى، واعترف المتحدّث الإسرائيلي بإصابة سبعة فقط، لكن الخسائر أكبر من ذلك بكثير وحجبتها الرّقابة العسكريّة الإسرائيليّة، مثلما كانَ عليه الحال في مُواجهاتٍ سابقة.

هُناك عدّة إبداعات جديدة لرجال المُقاومة يُمكن رصدها من خِلال مُتابعة تفاصيل هذه العمليّة البُطوليّة المُحكَمة الإعداد:

أوّلًا: جيش الاحتِلال استخدم وللمرّة الأولى مُنذ 23 عامًا مروحيّات “أباتشي” الأمريكيّة لإجلاء جرحاه وقتلاه من جرّاء تفجير العبوة الذكيّة، وإطلاق الصّواريخ والرّصاص الحي على عرباته الأخرى، فهذا النّوع من المروحيّات لا يستخدم إلّا ضدّ جُيوش وليس كتائب مُقاومة محدودة الإمكانيّات، وحديثة العهد، الأمر الذي يعكس حجم الارتِباك والرّعب.

ثانيًا: شُوهِد إطلاق هذه المروحيّات قنابل مُضيئة وهي تُحاول إنقاذ الجرحى ممّا يُؤكّد أن لدى المُقاومة صواريخ أرض جو قادرة على إسقاطها، ولكنّها قد تظهر في الوقت المُناسب.

ثالثًا: مُخابرات المُقاومة وأجهزة رصدها فاجأت العدوّ الإسرائيلي بتفوّقها بدراسةِ جميع الاقتِحامات السّابقة لقوّات المُستَعربين والجيش وحرس الحُدود للمُخيّم بدقّة، ونصبت الكمين بقُدرات تكنولوجيّة عالية، وإصابتهم في مقتل.

رابعًا: تغيير، أو قلب، جميع المُعادلات السّابقة، وإضافة مُعادلة جديدة طازجة تُؤكّد أن دُخول المُخيّم ربّما يكون سهلًا، ولكنّ الخُروج منه سيكون مُكلفًا بعد اليوم.

خامسًا: أرادت القوّات المُغيرة على المخيّم القِيام بمُحاولةٍ قويّة لاستِعادة الرّدع المُتآكل على مُعظم الجبهات، بعد الضّربات المُؤلمة جدًّا التي تعرّض لها جيش الاحتِلال، فجاء الفشَل أضخم ممّا تصوّره جِنرالاته، وازدادت الثّقوب الواسعة في هذا الرّدع بفَضلِ رُجولة، وإرادة، وعبقريّة، شباب كتائب المُقاومة.

سادسًا: السّؤال الذي يُقلق الاحتِلال وجِنرالاته، هو مصدر هذه العبوة الناسفة الذكيّة فهل هي تصنيع محلّي أم أنه جرى تهريبها من الخارج، ومن سورية ولبنان عبر الأردن، أم من قِطاع غزّة، أم جرى الاستِيلاء عليها، أو شراؤها من جُنود الاحتِلال الفاسِدين وما أكثرهم؟

سابعًا: هل وصلت صواريخ “الكورنت” الروسيّة الأصل، السوريّة التّصنيع، إلى الضفّة الغربيّة بعد أن وصلت إلى غزّة، ومعها صواريخ مُضادّة للطّائرات والمروحيّات، بالنّظر إلى إصابة أكثر من سبع عربات مُصفّحة، وتدمير بعضها بالكامِل في مِصيَدة جنين؟

ثامنًا: الصّحافة الإسرائيليّة ومُحلّلوها العسكريّون (جِنرالات سابقون على الأغلب) قالو إن ما حدث في جنين يُذكّرهم بالتّجربة الأليمة للجيش الإسرائيلي في الحِزام الأمني في جنوب لبنان من حيث التّخطيط والتّنفيذ، فهل جرى نقل تجربة “حزب الله” وخُبراته في فُنون المُقاومة والحرب الاستنزافيّة إلى الضفّة الغربيّة، وما هي المُفاجآت المُقبلة؟ وهل دخلت الضفّة مرحلة “اللّبننة القتاليّة الجنوبيّة”؟

***

إنها مُقاومة استثنائيّة فِعلًا، وإذا كانت كُل هذه الطّائرات والمُدرّعات، ومِئات الجُنود، لم تستطع هزيمة الشّباب المُقاوم في مدينة جنين ومُخيّمها، فكيف سيكون الحال لو كانت المُواجهة مع “حزب الله” الذي يملك 200 ألف صاروخ مُعظَمها دقيق، علاوةً على خمسة آلاف مُسيّرة، ومئة ألف مُقاتل يملكون خُبرات قتاليّة عالية اكتَسبوها في مُواجهة المُسلّحين المدعومين والمُدرّبين أمريكيًّا في سورية؟ ولاحَظُوا أنّنا لا نتحدّث هُنا عن إيران.

العُبوات النّاسفة “الذكيّة” كانت مُفاجأةً صادمةً لجيش الاحتِلال، وفشلًا ذريعًا لأجهزة مُخابراته، فكيف سيكون الحال عندما يتم الكشف، وربّما في القريب العاجِل عن انتِقال تكنولوجيا الصّواريخ إلى الضفّة الغربيّة، خاصّةً بعد اكتِشاف تجربة أولى في هذا الخُصوص لم تُكلّل بالنجاح، وجرى العُثور على منصّة إطلاق بدائيّة في إحدى القُرى القريبة من مُستوطنة حُدوديّة؟ ولا ننسى أن الصّواريخ جميعها بدأت “عبثيّة”، وتطوّرت بشَكلٍ مُتسارعٍ ووصلت إلى تل أبيب والقدس المُحتلّين بعد مُستوطنات غِلاف قِطاع غزّة.

ونذهب إلى ما هو أبعد من ذلك ونُعيد التّذكير بإسقاط الأردن طائرة مُسيّرة قبل أيّام تحمل أسلحة وقنابل عبرت الحُدود السوريّة الأردنيّة، فهل كانت وجهة هذه المُسيّرة وحُمولتها السويد مثلًا؟

شرارة الانتِفاضة المُسلّحة الأولى انطلقت عام 2000 واستمرّت خمس سنوات، وقبل عصر الصّواريخ الدّقيقة، و”الكورنيت”، والمُسيّرات، ترى كم ستستمر الانتِفاضة الحاليّة التي لا تأتمر لقِيادة أوسلو ولا تعترف بها، وليس لها أيّ علاقة بالعرب مُطبّعين كانوا أو في الطّريق إلى التّطبيع؟

تجربة الإسرائيليين وجيشهم كانت أليمة في جنوب لبنان، وانتهت بالانسِحاب الذّليل، وكتائب المُقاومة الفِلسطينيّة التي تسير على الدّرب نفسه، وتُحاكي هذه المُقاومة ستُحقّق النّتيجة نفسها، إن لم تكن أضخم، ورحم اللُه الشّهداء.. والأيّام بيننا.

ان الآراء المذكورة في هذه المقالة لا تعبر بالضرورة عن “رأي سياسي” وإنما تعبر عن رأي صاحبها حصرًا.

أخبار مرتبطة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى