أبرزرأي

كيف نستعيد الديمقراطية في تونس؟

كتب مهدي المبروك في “العربي الجديد”: ما العمل؟ يعود هذا السؤال الذي صاغه لينين منذ أكثر من قرن إلى التونسيين أكثر إلحاحا، مع  فارق بارز، فإذا كان صاحبه قد طرحه، وهو في حالة مد ثوري، فإن التونسيين يطرحونه وهم في حالة انحسار وجزر، والانقلاب يصنع واقعا على الأرض يعسُر نكرانه أو تغييره.
تداعى للإجابة عن هذا السؤال ثلة من المناضلين، دعتهم الهيئة العليا للدفاع عن الحريات والديمقراطية، وهي هيئة تأسّست بعيد الانقلاب من أجل التصدّي للخروق الكثيرة والخطيرة التي طاولت الحريات الفردية والجماعية، وألقت نوابا ونشطاء عديدين في السجون، خصوصا في ظل تواطؤ جمعيات ومنظمات حقوقية ليست قليلة، في مقدمتها الرابطة التونسية لحقوق الإنسان التي ساندت الانقلاب، وكالت بمكيالين حسب انتماءات الضحية. ولعل رحيل هيئتها المديرة قبل أيام على إثر انتخابات حرّة ونزيهة في أثناء مؤتمرها خير دليل على خيبة مناضلي الرابطة ورغبتهم في طي تلك الصفحة المشينة.
دفعت السكتة الدماغية التي أصابت المجتمع السياسي والمدني معا في تونس، على إثر الانقلاب بعض النخب إلى الحرص على تلافي هذا التقصير الذي لم يكن لائقا بمجتمع مدني وسياسي كان استثناء في محيطه العربي عموما.

كان الإجماع، من خلال مداخلات عديدين حضروا الاجتماع، أن الأمر قد يتواصل طويلا إذا لم  يلتق المجتمع المدني مع الأحزاب السياسية من أجل إيقاف قطار الانقلاب. ويحتاج هذا اللقاء الضروري جملة من الشروط والترتيبات، لعل أهمها الاعتراف بأن الثقافة السياسية التي رافقت الانتقال الديمقراطي لم تكن سوى قشرة سطحية منحصرة في نخب ضيقة. لم تكن الديمقراطية، قيما وقناعات وسلوكات وأفكارا، ثقافة شعبية راسخة، بل الأرجح أن هذه الجموع الواسعة كانت أقرب إلى الاستبداد. يؤكّد الخبير القانوني، عياض بن عاشور، أن المسافة الفاصلة بين النخب والشعب لم تكن سوى مسافة وهمية، والأرجح أن الجميع كان مشدودا إلى “أرثوذوكسية” مناهضة للديمقراطية والاختلاف والتعدّد، وهي أميل إلى الوحدة والتشدّد المعادي للاختلاف. ولذلك كانت هذه الجموع الواسعة قد هللت للانقلاب. لم يكن الإخفاق الاقتصادي سببا وحيدا لهذا التبرّم بالديمقراطية والضيق بها، بل كان الاستبداد نواة صلبة في مزاج الشعب والهوى العام لهذه الجماهير. الأرثوذوكسية بالمعنى المذهبي الديني (المالكية الأشعرية) كانت، حسب بن عاشور، نسقا راسخا في الثقافة الشعبية التونسية، التي فشلت النخب في نقلها إلى عصر الحداثة السياسية والديمقراطية. هذه الأسباب البنيوية التاريخية العميقة هي التي حالت دون توطين الديمقراطية. ما زالت هذه الثقافة الشعبية كليانية ضاغطة على قناعات الناس مناهضة للتحرّر والديمقراطية.
كان على التونسيين جميعا أن ينتبهوا إلى أن بعض الأوهام حالت دون أن يروا الأمور من دون مساحيق. لقد تباهوا طويلا بمجتمع مدني عريق ورائد، غير أنه خذل الديمقراطية في أول اختبار، وذلك عائد إلى عدة تحولات عرفها المجتمع المدني خلال العشرية الفارطة، لعل أهمها تحوّل المجتمع المدني ذاته إلى قطاع تشغيلي في ظل ارتفاع عدد العاطلين عن العمل. فقد منتسبون عديدون إلى هذا المجتمع المدني حسّهم النضالي، وتحولوا إلى يد عاملة لدى جمعيات ومنظمات تشغّلهم وفق أجنداتها. كما أن بعض هذه الجمعيات قد تحوّل إلى بيوت استشارة وخبرة تقدّم معرفة بالمجتمع ومختلف ظواهره. وسحبت من هذا المجتمع الالتزام المواطني والمدني المناهض للسياسات التي تسنها الدولة. كما أن التوظيفات السياسية البارزة لهذا المجتمع، وتبعية بعض من الجمعيات والمنظمات إلى هذا الحزب أو ذاك كانت قد ورّطت هذا المجتمع في التسيس المفرط، حتى تحوّل هذا المجتمع المدني إلى أذرع مدنية للأحزاب السياسية، بل إن بعضا من هذا المجتمع المدني مارس أدوارا حزبية واضحة.

وإذا كان واضحا لدينا أن الأحزاب لا تختلف عن المجتمع المدني إلا في السعي إلى التنافس على السلطة، فإن بعض الجمعيات سعت، بطرق ملتوية، إلى الوصول إلى السلطة، مستغلة التمويل غير المراقب وثغرات في التشريع. ويرى الباحث حاتم الفطناسي الذي أصدر، أخيرا، كتابا مهما باللغة الفرنسية، أن تونس قد انحرفت إلى شعبويةٍ خطيرة، تذهب هذا المذهب. بل لا يتردد في تقديره أن استعادة الديمقراطية تقتضي نزع الأساطير التي رافقت هذا المجتمع المدني، فالنقد الذاتي الذي بات ضروريا من أجل استعادة الديمقراطية لا يعني الأحزاب فحسب، بل يشمل أيضا المجتمع المدني ذاته. ويقول الجامعي أيمن البوغانمي الذي صدر له عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات كتابه “الشعب يريد: حين تأكل الديمقراطية نفسها” إن استعادة الديمقراطية في تونس مرهونة بالكفّ عن شيطنة العشرية الفارطة والتمثيل بالسياسيين، مؤكّدا أن الديمقراطية صمدت عشر سنوات وتلك معجزتها: لقد كافحت الديمقراطية ضد محيط إقليمي مناهض للديمقراطية، فضلا عن  إرهاب عصف بالاقتصاد علاوة على مجتمع مدني منفلت، عملت فيها النقابات على شلّ الإنتاج، مستضعفة الدولة.
يعوّل كثيرون على هذه المبادرة من أجل بناء جسور بين الأحزاب والمجتمع المدني… التجسير مهمة ضرورية، حتى لو بدأ التونسيون بجسر خشبي، كما كان سعد الدين إبراهيم يردّد في بداية ثمانينيات القرن الفارط.

أخبار مرتبطة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى