كتب ألكسندر نازاروف في “تليغرام”: الاقتصاد يحدد كل شيء. لكن، في عصر العولمة، تغير هذا المبدأ قليلا لتصبح مكانة الدولة في النظام الاقتصادي الدولي هي التي تحدد كل شيء. بل وتحدد، من بين أمور أخرى، ليس فقط من يملك السلطة، وإنما أيضا النظام السياسي ووجهة الدولة خارجيا. إلا أن ذلك لا يعني أنه لا توجد فرصة لتغيير الوضع، فهناك طريقة، لا يستطيع أن يقدم عليها الجميع.
وسأضرب مثلا بروسيا. بعد انهيار الاتحاد السوفيتي، احتفظت روسيا بعدد من عناصر القوة العظمى، إلا أنها، ومن حيث الهيكل الاقتصادي والمكانة في التوزيع العالمي لسوق العمل، أصبحت دولة نامية.
وخلال الانهيار المريع في التسعينيات من القرن الماضي، بقيت على قيد الحياة وازدهرت الصناعات التي كانت مطلوبة في الغرب، وهي كقاعدة عامة، صناعات المواد الخام ومعالجاتها الأولية. وعلى الرغم من وجود صناعات أخرى قوية وحديثة في روسيا، إلا ان التركيز الأكبر لرأس المال والوزن السياسي كان موجودا على وجه التحديد في صناعات المواد الخام. وكانت الأوليغارشية التي تسيطر على قطاع المواد الخام تحدد، طوال العقود الثلاثة التي تلت انهيار الاتحاد السوفيتي، ليس فقط السياسة الاقتصادية للبلاد، ولكن كذلك المسار السياسي العام للدولة.
وكانت تلك السياسة تتعارض مع مصالح الشعب الروسي والدولة الروسية نفسها. على سبيل المثال، فمن أجل تطوير الإنتاج المحلي، كان من الضروري خفض قيمة الروبل، من أجل جعل السلع الروسية أرخص، وأكثر قدرة على المنافسة. لكن الصادرات المتزايدة للنفط والغاز جلبت الكثير من العملة الصعبة لدرجة أن الروبل كان أعلى من المستوى الذي تتطلبه الصناعة. أو لنلاحظ، على سبيل المثال أيضا، كيف انضمت روسيا إلى منظمة التجارة العالمية، بسبب الضغط في هذا الاتجاه من قبل المسيطرين على قطاع المعادن، ممن كانوا يوردون المعادن الخام غير المصنعة إلى الغرب، حيث منعت عضوية منظمة التجارة العالمية روسيا من حماية الإنتاج المحلي، ولم يعد لدى قطاعات الإنتاج الصناعي الفرصة لدخول السوق أو إعادة الإحياء.
إن النخبة الكومبرادورية، أي المعتمدة على رأس المال الأجنبي، والتي تخدمه وتمثل مصالحه داخل الدولة غادرة بحكم التعريف، ودائما ما ستختار مصالح شركائها في الغرب، مضحية في ذلك بمصالح البلاد. وتكون النتيجة تدهور وانقراض البلاد والشعوب، وألعاب الديمقراطية لن تساعد هنا، فالأحزاب والبرلمانات من الممكن شراؤها برأس المال السخي.
مثال آخر هو الولايات المتحدة الأمريكية، والتي كانت محظوظة، حيث استولى رأس المال الصناعي في المراحل الأولى على السلطة، التي كانت موجهة نحو الاستهلاك المحلي وتنمية البلاد. ومع ذلك، وبعد الثمانينيات، بدأ الممولون المسيطرون على الاقتصاد الأمريكي بالحصول على أرباحهم الرئيسية من الأسواق الخارجية، وهو ما نقل الولايات المتحدة هي الأخرى إلى فئة العالم الثالث. أو بمعنى آخر، فإن الوضع في الولايات المتحدة الأمريكية أصعب وأكثر تعقيدا، ومن الصعب التعبير عنه بمصطلح وحيد. إلا أنه، وبشكل عام، أصبحت جميع الدول الآن مانحة للنخبة العالمية، لعدد من الصناديق الاستثمارية التي لم يعد لها جذور، ولا تنتمي قواعدها لأي دولة بعينها.
ترامب هو المحاولة الأخيرة من جانب رأس المال القومي الأمريكي لتحويل موجة التطوير لصالح التنمية المحلية، ولست متأكدا من أن بإمكانية الجمهوريين مواصلة المسيرة بدونه.
لكن، لنعد إلى روسيا، بلد التجارب والتناقضات التاريخية. في تاريخ روسيا، كانت هناك بالفعل سوابق للانتصار على دعاة العولمة. ففي عام 1917، وبعد الثورة الشيوعية، تولى اليساريون المتطرفون المنتمين إلى تيار العولمة، والذين كان هدفهم السيطرة على العالم بأسره في إطار المشروع الشيوعي. واسمحوا لي هنا أن أذكركم بأن تروتسكي كان ينوي استخدام روسيا كـ “حزمة من الحطب لإشعال نيران الثورة العالمية”، مضحيا بروسيا نفسها، وهو ما يفسر شراسة الإرهاب الأحمر للينين وتروتسكي ضد الشعب الروسي.
ومع ذلك، فحينما جاء ستالين بعد ذلك، طرح مفهوم “بناء الاشتراكية في بلد واحد” وأزاح النخب المنتمية إلى العولمة، المسماة بـ “البلاشفة القدامى” خلال عمليات التطهير عام 1937. ولم يكن من الممكن أن يتحقق تحول الاتحاد السوفيتي إلى القوة العظمى الثانية في العالم دون مسار ستالين نحو التنمية المحلية في البلاد. كان ستالين طاغية، إلا أن الاتحاد السوفيتي، بالنسبة للنخبة السوفيتية، كان حصنا منيعا ينبغي تعزيزه وتطويره.
الآن، ومن أجل تغيير مسار روسيا، كان من الضروري إما تدمير النخبة القديمة، مثل ستالين، أو قطع علاقتها مع الغرب بطريقة ما. ولست متأكدا بعد، مما إذا كانت المواجهة الحالية بين روسيا والولايات المتحدة الأمريكية هي مسار طبيعي للتاريخ أم اختيار متعمد من قبل فلاديمير بوتين. لكن النتيجة على أي حال رائعة، فالغرب نفسه يقطع كل العلاقات مع روسيا، ويسرق النخب الروسية، فيما تتجه روسيا بسرعة نحو تأميم النخبة من أجل تكرار تحول ستالين نحو التنمية المحلية.
كذلك اتخذت الصين خيارها بالفعل في المؤتمر الأخير للحزب الشيوعي الصيني، حينما سحقت المجموعة الوطنية بقيادة شي جين بينغ القوى الموالية للولايات المتحدة الأمريكية. وردا على ذلك، يقومون الآن بإثارة الاحتجاجات في الصين، قبل الصدام العسكري بين الصين والأنغلوساكسون. باختصار، يتعين على الصين أيضا أن تمر بتوترات وضغوط شديدة بين القوى المختلفة، وتخاطر بوجودها.
يولد المرء من الألم. والأمة ذات السيادة في الظروف الراهنة تولد هي الأخرى من خلال الألم، ولا توجد طريقة أخرى للفوز بالحق في تقرير مصير الأمة.
الدول العربية هي الأخرى تعاني من نفس مشكلة روسيا، فاقتصادات هذه الدول ثانوية بالنسبة للغرب، وتعتمد رفاهية نخبهم على درجة التعاون مع الغرب، وفي ظل هذه الظروف، هناك فرص قليلة للتنمية لصالح الشعوب، على الرغم من حقيقة أن السوق العربية المتوقعة تضم 500 مليون نسمة يمكن أن تمثل قطبا اقتصاديا مستقلا في العالم.
فلا إندونيسيا ولا البرازيل ولا نيجيريا ولا مصر أو حتى الهند سيكون لهم موطئ قدم في مجلس الأمن الدولي للنظام العالمي المستقبلي الجديد إذا لم يمروا الآن بمخاض الولادة كقوة ذات سيادة. والإطاحة بالولايات المتحدة الأمريكية من على عرش الهيمنة العالمية لن تمنح وضعا متميزا تلقائيا للدول الكبيرة.
فعدد السكان لا يهم، المهم هو أولا وقبل كل شيء صلابة الإرادة والاستعداد للقتال من أجل حق الشعب وزعيمه في تقرير مصير الوطن والبشرية. وسيتعين إظهار هذا الاستعداد فعليا الآن، عندما يتم تشكيل معسكرات متصارعة، ومن لا يدخل المعسكر المنتصر، أو حتى أكثر من ذلك، من سيكون في المعسكر الخاسر، سيبقى محلك سر في المرتبتين الثانية أو الثالثة في النظام العالمي الجديد. ما سيحدث لهذه الدول ببساطة، هو تغيير المالك لا أكثر.
وبغض النظر عن الطريقة التي يتعامل بها أي شخص مع أردوغان، إلا أنه الأقرب حاليا إلى العضوية في مجلس الأمن الجديد من معظم الدول المذكورة آنفا. والشخصية السياسية العربية الأقرب إلى معايير الشخصية المطلوبة هي جمال عبد الناصر، الذي استطاع أن يخوض آلام المخاض نحو العظمة واتبع الفكر الصحيح، إلا أنه ولد في وقت لم تكن فيه مصر أو أي من الدول العربية بشكل عام تمتلك الإمكانيات اللازمة لذلك بعد.
فهل تلد الأمة العربية مثل هؤلاء القادة؟ سؤال مطروح.