كيف ترشدنا الطيور المهاجرة إلى محنة الكوكب؟
أدى تغير المناخ إلى ارتفاع درجة الحرارة بصورة غير مسبوقة في مناطق لم تعتد هذا الطقس سابقاً، وإلى اختفاء نباتات وزراعات معينة من مناطق كانت تتميز بها، واختفت الكائنات التي كانت تعتمد عليها كغذاء ليرتبك المشهد بالكامل بفعل اعتماد كائنات على أخرى، ليصبح من بين المتضررين من هذا التأثير الطيور المهاجرة التي اختفت من مناطق واستوطنت أخرى، واختلفت توقيتات هجرتها في بعض الأحيان كنتيجة لارتفاع درجات الحرارة.
عن التنوع البيولوجي
استشاري التغيرات المناخية والتنمية المستدامة السيد صبري يقول إن “تغير المناخ له تأثير كبير بالفعل في التنوع البيولوجي، وهناك اتفاقات وقعت عام 1993 في ريو دي جانيرو، في ما يتعلق بقضايا تغير المناخ والتنوع البيولوجي والتصحر، لأن القضايا الثلاثة هناك ارتباط وثيق بينهم، فتغير المناخ له انعكاس على التنوع البيولوجي، واختلال الأخير يؤثر في جميع الكائنات باعتبار أنها تعتمد على بعضها بعضاً في ما يعرف بالسلسلة الغذائية، كما يؤدي ذلك أيضاً إلى تغير شكل الإنتاج الزراعي الذي تعتمد عليه كائنات أخرى فتستمر الدائرة، ويمكن القول إن الإنسان أكثر الكائنات قدرة على التكيف مع البيئة، لكن كثيراً من الكائنات الحية تحتاج إلى موائل معينة قد لا تجدها، فتتأثر بشدة وتقل أعدادها، وقد تعاني خطر الانقراض بسبب عدم وجود بيئة مناسبة للتكاثر بسبب التغيرات المناخية”.
ويضيف صبري، “في ما يتعلق بهجرة الطيور فهي بلا شك تأثرت بتغير المناخ، فالطيور المهاجرة كانت تأتي من أوروبا حيث الطقس البارد، وتبدأ رحلتها مع بدايات الخريف لتستقر في مناطق دافئة حتى بداية فصل الربيع، ومع ارتفاع درجة حرارة الأرض أصبحت بعض الطيور تبدأ رحلتها متأخرة عن التوقيت المتوقع لأن الحرارة لا تزال مرتفعة، وفي أحيان أخرى عندما تصل إلى وجهتها المنشودة تجدها تضررت بفعل عوامل تغير المناخ، فقد يكون أصابها الجفاف أو اختفت طبيعة الغذاء الذي كانت تعتمده فتسعى إلى البحث عن موئل جديد، وفي خلال عملية البحث أحياناً يفقد كثير من الطيور من نوعية معينة مما يؤثر في التوازن البيئي”.
قبلة الطيور
تتميز مصر بتنوع كبير في طيورها إذ تضم ما يزيد على 500 نوع، وتعتبر ثاني أهم ممر عالمي لهجرة الطيور، إذ يمر عليها سنوياً مئات الملايين منها في أثناء هجرتها السنوية لتمضي فصل الشتاء في مصر على سواحل البحرين الأبيض والمتوسط وعلى امتداد وادي النيل، كما تنتشر في منطقة الجنوب وتحديداً أسوان وبحيرة ناصر ومنطقة الفيوم لتشهد كل عام موسماً حاشداً بأنواع مختلفة من الطيور يكون فرصة لكل المهتمين بها للرصد والمراقبة والدراسة، والتعرف على أية متغيرات جديدة في الرحلة السنوية للطيور المهاجرة.
وقامت مصر بعدد من المشاريع للعمل على حماية الطيور المهاجرة، من بينها مشروع صون الطيور الحوامة الذي يتم تنفيذه بالتعاون مع برنامج الأمم المتحدة الإنمائي “بيرد لايف إنترناشيونال” وهيئة الطاقة الجديدة والمتجددة، والذي حصل عام 2020على جائزة الطاقة العالمية كمثال للمشاريع الرائدة والمستدامة التي تحقق أهدافاً ملموسة لحماية الطيور المهاجرة كأحد الموارد الطبيعية ودمج أهدافها بمشاريع الطاقة المتجددة في مصر.
كذلك اعتمدت مصر برنامج الغلق الجزئي لتوربينات الرياح لحماية الطيور أثناء مرورها بهذه المنطقة حتى لا تصطدم بها، إضافة إلى القيام بحملات تفتيشية لضمان منع الصيد الجائر والعمل على رصد ومراقبة أنواع الطيور وتسجيلها، علاوة على إنشاء أول مركز تجريبي لإنقاذ الطيور في جنوب سيناء لتوفير الرعاية البيطرية للطيور في رحلة هجرتها.
تغير المناخ وتأثيراته أصبح واقعاً بالفعل، ومواجهته هي السبيل الوحيد لحماية الإنسان وكل الكائنات الحية. ويقول صبري إن “هذه المواجهة مسؤولية العالم كله، وعليه اتخاذ جميع التدابير لتقليل أثر التغير المناخي، وفي ما يتعلق بالطيور المهاجرة فلابد على جميع الجهات المعنية رصدها ومراقبة توقيتات قدومها والعمل على الحد من أية أخطار تتعرض لها، ولمصر تجارب عدة مميزة في هذا الشأن، وفي الوقت ذاته هناك ضرورة لتفعيل القواعد والقوانين التي تواجه الصيد الجائر باعتباره من أهم الأخطار التي تواجه الطيور المهاجرة، والتعرف إلى الموائل الجديدة للطيور، ومحاولة تقليص الأضرار البيئية الواقعة عليها إلى أقصى درجة”.
ويستكمل أن “الأزمة هنا أن ما تواجهه الطيور حالياً هو التأثير الناتج من الأضرار التي لحقت بالبيئة خلال العقود السابقة، والوضع الحالي ستظهر نتائجه بعد أعوام وسيكون أكبر بكثير، مما يحتم على جميع دول العالم العمل على تقليل الانبعاثات الكربونية واعتماد جميع نظم حماية البيئة”.
“فلامنغو” يستوطن مصر
مواسم الطيور المهاجرة السنوية تعد فرصة لكل المهتمين بهذا المجال، باحثين أو مراقبين للطيور أو مستكشفين ومهتمين بالسياحة البيئية، فمراقبة ودراسة الموسم السنوي للطيور المهاجرة في مصر يمكن الباحثين من رصد التغييرات التي تحدث في توقيتات وأماكن وجود الطيور، والاختلافات التي قد تحدث بين عام وآخر، وبالفعل تمكن الباحثون ومراقبو الطيور في مصر من رصد بعض التغيرات في أنواعها والأماكن التي تستوطنها.
مستكشف الحياة البرية ومؤسس مركز المعلومات الوثائقية للعلوم البيئية رمضان منير عواد يقول “خلال العقد الأخير حدث كثير من التغيرات في ما يتعلق بهجرة الطيور، وسجل مراقبوها إقامة بعضها بصورة دائمة في بعض المناطق بدلاً من اعتباره مقراً موقتاً، ومنها طائر الفلامنغو الذي تم رصد الإقامة الدائمة لبعض أسرابه طوال العام في مناطق شمال بحيرة قارون بمحافظة الفيوم، وفي منطقة جبل الزيت شمال مدينة الغردقة على ساحل البحر الأحمر، حيث رصدنا أعداداً مهولة لطيور الفلامنغو المستقرة طوال العام”.
ويضيف، “لا يقتصر الأمر فقط على طائر الفلامنغو، إذ رصد توافد أعداد كبيرة من الطيور الآسيوية التي ظهرت في توقيت واحد في مصر، وهي ثلاثة أنواع عصفور المينا وعصفور الفراولة الهندي وعصفور فضي المنقار الهندي، ونحن نعمل من خلال مركز المعلومات الوثائقية على مراقبة التنوع الحيوي في مصر وتسجيل ما يتوافد على بيئاتها المختلفة، فيدرج كمّ هائل من المعلومات تسجل بنظام الباركود، وهذه الأساليب الحديثة التي نطورها في عمليات رصد الطيور تعد الأولى من نوعها في الشرق الأوسط، وبالفعل هناك ملاحظات عن وجود تغيرات وطفرات في ما يتعلق بالطيور المهاجرة ترجع بصورة كبيرة للتغيرات المناخية”.
الخطوط الملاحية للطيور
ولم تغير بعض الطيور المهاجرة وجهاتها فقط، لكن بعضها قام بتغيير المسار المعتاد الذي كان يعتمده في الوصول إلى منطقة معينة لأسباب يعمل العلماء على تفسيرها، فقد يكون لتغير المناخ دور في ذلك، وقد تكون هناك أسباب أخرى تدفعها لاتخاذ مسارات جديدة.
ويشير عواد إلى أن “الطيور المهاجرة لديها خطوط ملاحية تستدل بها على طريق هجرتها، وعند العودة تستدل بها على موطنها الأصلي، وتؤكد الدراسات الحديثة أن الطيور تستدل على تلك الخطوط الملاحية من خلال الحقل المغناطيسي للكرة الأرضية، وتتخذه خريطة لتحليقها في مسارات يتعقبها الطائر، وقد أثبتت بعض الدراسات أخيراً أن الشمال المغناطيسي اختلف نسبياً عن فترات سابقة مما قد يكون واحداً من العوامل التي أدت إلى أن تغير بعض الطيور مساراتها، فربما تستدل على خطوط ملاحية أفضل من التي كانت تعتمد عليها في السابق، وقد يكون هذا سبب أيضاً لانتقال بعض الطيور الساكنة التي لا تهاجر من موطنها إلى مواطن أخرى لحدوث خلل في نظم حياتها”.
ويضيف، “هذه النوعية من الدراسات البيئية معقدة للغاية وربما تحير علماء التاريخ الطبيعي، فما يزال بعض الأمور قيد الدراسات الاستطلاعية لفهم ما يحدث حولنا من تغيرات وأثرها في حياة الكائنات الحية وحياتنا، واليوم تشهد الأرض ظواهر لم نسمع بها طوال تاريخ الحضارات الممتدة، وبفضل العلوم الحديثة نفعل ما في وسعنا من أجل رصد تلك التغيرات وفهم الأحداث الحقيقية والواقعية التي أدت إلى إقامة بعض الطيور في أرض لم تكن أرضها، وموطن جديد لم يكن موطنها”.