كسر الحذر المصرفي في تونس حتمية اقتصادية

كتب رياض بوعزة في صحيفة العرب.
مئات الأفكار الاستثمارية تجد نفسها عالقة بين متطلبات تمويل صارمة وبنوك تفضّل السلامة المطلقة على المخاطرة المحسوبة.
لم يعد خافياً أن البنوك التونسية تقف اليوم عند مفترق طرق دقيق، فهي مطالبة بالحفاظ على استقرار النظام المالي في بيئة اقتصادية ضاغطة، وفي الوقت نفسه مدعوة إلى لعب دور أكثر فاعلية في تمويل المشاريع ودفع عجلة النمو. غير أن هذا التوازن يبدو صعباً في ظل تراكم التحديات التي تحيط بالاقتصاد منذ سنوات.
تجد مئات الأفكار الاستثمارية نفسها عالقة بين متطلبات تمويل صارمة وبنوك تفضّل السلامة المطلقة على المخاطرة المحسوبة. وبين منطق الاستقرار المالي وضرورة دفع عجلة التنمية، يبرز سؤال جوهري: هل تحمي البنوك الاقتصاد بحذرها، أم أنها تقيّده وتؤجل تعافيه؟
في ظل محاولات التحفيز، تبدو الحاجة إلى الاستثمار المنتج والتمويل الموجه نحو الاقتصاد الحقيقي أكثر إلحاحًا من أي وقت مضى. تصريحات محافظ البنك المركزي فتحي النوري، مؤخرا، لم تكن مجرد كلمات روتينية، بل دعوة صريحة إلى إعادة التفكير في دور البنوك والقطاع المالي، بحيث يتحول التمويل من مجرد أداة لتغطية العجز أو المضاربات قصيرة الأجل إلى قوة دافعة للتنمية الشاملة.
البنوك لا يمكن أن تظل مؤسسات ربحية منعزلة عن الواقع، بل عليها تحمل مسؤولية أكبر في تمويل المشاريع المنتجة، ودعم ريادة الأعمال، وتمكين الشركات الصغيرة والمتوسطة، التي تشكل بلا شك، عصب الاقتصاد
لا أدل من المؤشرات في وصف ديناميكيات الاقتصاد، فهو يعاني من ضعف في تدفق الاستثمار، سواء المحلي أو الأجنبي، ما انعكس على النمو وتوفير فرص العمل. تظهر الأرقام أن معدل الاستثمار الكلي انخفض إلى 16 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي الفترة الأخيرة مقابل 19.3 في المئة قبل نحو ثماني سنوات، وهو تراجع يكبل قدرة الاقتصاد على التوسع ويؤدي إلى ركود في الإنتاجية وارتفاع معدلات البطالة التي تحوم حول 15 في المئة منذ 16 سنة.
يظل جزء كبير من الموارد المصرفية موجهًا نحو تمويل القطاع العام، فقد نمت قروض الدولة إلى 18 في المئة من إجمالي أصول البنوك، بينما نما تمويل المشاريع الخاصة بوتيرة ضعيفة بلغت 5 في المئة فقط خلال الأشهر الأخيرة. هذا التفاوت يفرز فجوة بين السياسات النقدية والاحتياجات الحقيقية للاقتصاد، ويعكس محدودية دور القطاع المصرفي في دعم الأنشطة الإنتاجية الحقيقية.
إن ما يقصده النوري بالتمويل الموجه نحو الاقتصاد الحقيقي هو توجيه الأموال نحو مشاريع تولد قيمة مضافة حقيقية، سواء في الصناعة والزراعة والخدمات التقنية، أو الطاقة المتجددة. التمويل بهذا الشكل يجعل البنوك شريكًا حقيقيًا في التنمية، يشارك في اختيار المشاريع وتقييمها، ومتابعتها، بدل الاكتفاء بتقديم القروض، ما يضمن أن كل دينار مستثمر يولد قيمة ويحفز عجلة النمو.
هنا يتقاطع هذا التوجه مع ما نؤكده دائما بضرورة تقاسم القطاع المصرفي الأعباء في جهود التنمية، فالبنوك لا يمكن أن تظل مؤسسات ربحية منعزلة عن الواقع، بل عليها تحمل مسؤولية أكبر في تمويل المشاريع المنتجة، ودعم ريادة الأعمال، وتمكين الشركات الصغيرة والمتوسطة، التي تشكل بلا شك، عصب الاقتصاد.
تتلاقى هذه الرؤية مع فكرة جوهرية ومهمة تشمل تطوير أدوات مالية جديدة، وتطبيق معايير مخاطرة تراعي خصوصيات المشاريع رغم التشريعات الكثيرة التي تضبط أداء النظام المالي. بلا أموال وشيء من المخاطرة لا يمكنك أن تجني الأرباح؛ هذه قاعدة.
لكن هذه التحولات لا يمكن أن تحدث بمعزل عن إطار سياسي واقتصادي متماسك يدعم الاستثمار ويحفز القطاع الخاص. فالتحديات الهيكلية التي تواجه الاقتصاد التونسي، مثل بطء الإصلاحات الإدارية والتشريعية، وارتفاع الضغط الضريبي، وصعوبة الوصول إلى التمويل الخارجي، تؤثر سلبًا على مناخ الأعمال وثقة المستثمرين.
ثمة أدلة ملموسة على ذلك، فالبنك الدولي أشار قبل فترة إلى أن النمو الاقتصادي في تونس كان ضعيفًا نسبيًا في عام 2024 و2025، وهو ما يعكس تراجع وتيرة النشاط الاقتصادي بشكل عام ويزيد من الحاجة إلى استثمارات حقيقية تعيد التنشيط إلى مختلف القطاعات.
التحديات الهيكلية التي تواجه الاقتصاد التونسي، مثل بطء الإصلاحات الإدارية والتشريعية، وارتفاع الضغط الضريبي، وصعوبة الوصول إلى التمويل الخارجي، تؤثر سلبًا على مناخ الأعمال وثقة المستثمرين
إن ما طرحه محافظ المركزي كان يجب أن يطرح منذ سنوات. صحيح أن هناك فوضى اقتصادية تحتاج إلى ترتيب محكم للابتعاد من الأزمات تدريجيا، ولكن مع ذلك يمثل فرصة لإعادة صياغة دور القطاع المالي وربطه بالاقتصاد.
إذا نجحت البنوك في تبني هذا النهج، مع سياسات حكومية واضحة ودعم المشاريع بعيدا عن منطق الربح السهل دون مخاطرة، يمكن لتونس أن تنتقل من مرحلة الركود إلى اقتصاد أكثر تنوعًا واستدامة بشكل أسرع، وستكون قادرة على مواجهة التحديات الداخلية والخارجية، وتحقيق تنمية حقيقية تشمل الجميع بما يعكس تطلعاتهم في العيش الكريم والفرص الاقتصادية.
الاستثمار المنتج والتمويل الموجه نحو الاقتصاد الحقيقي ليس مجرد شعار أو خطاب رسمي، بل هو مسار عملي لإعادة بناء نموذج جديد، وهو الطريق الذي يربط بين السياسة النقدية والتنمية، بين القطاع المصرفي والمجتمع، بين المال والنمو الحقيقي، ليصبح كل دينار ممول استثمارًا في المستقبل وليس مجرد أداة مالية قصيرة الأجل.
تونس اليوم أمام فرصة تاريخية لجعل القطاع المصرفي شريكًا فاعلًا في التنمية وتوليد الثروة وجعل اقتصادنا ينتج ويستثمر ويستجيب لتطلعات كل الشرائح للحفاظ على دورة تنموية هي أساسا بحاجة إلى التحفيز باستمرار.




