كتبت ولاء السامرائي في ” العربي الجديد”: لأول مرة في تاريخ كأس العالم تدار ضد البلد المنظم حملة إعلامية واسعة وشرسة، كما التي تمارسها أجهزة إعلام بعض الدول الغربية ضد قطر وتنظيمها هذه المناسبة الكروية الكونية. ويكفي الاطلاع على المواسم السابقة للتأكّد من المدى الذي بلغته ضد قطر. ومعلوم أن مباريات كأس العالم تحظى باهتمام عالمي وتغطية إعلامية استثنائية، لمتابعة مليارات من الناس لها. وهي فرصة تجارية ضخمة للبلد المنظّم وللشركات التي تتعاقد لبناء البنى التحتية من الملاعب والطرق والمجمّعات السكنية وفرصة توفير آلاف المهن للعمّال الذين تستخدمهم الشركات، في شتّى المجالات من سكن ونقل وطعام وأمن. ولا تقتصر هذه المناسبة على الرياضة واقتصادها المربح، بل تحضر السياسة فيها من دون استدعاء مباشر أو غير مباشر، وهذا عبر تاريخ تنظيم هذه المنافسات.
مع قرب افتتاح الدورة الثانية والعشرين، تأتي أشرس الحملات ضد قطر من الإعلام الفرنسي، ومن إعلام اليسار بالذات الذي يمرّر مشاعره غير الطيبة زورا، عبر موضوع حقوق الإنسان ويتباكى على عمّالٍ فقدوا حياتهم خلال عمليات البناء والأعمال الخاصة بالمباريات، وبحجّة أن قطر دولة صغيرة، وبزعم أنها ليست مهتمة بالرياضة وكرة القدم، وليست كما دول كثيرة معروفة بحب شعبها هذه الرياضة وفوزها في أكثر من دورة عالمية. ليس ذلك فحسب، بل يدعو هذا الإعلام إلى إفشال هذه البطولة مع قرب انطلاقها، لذا ستمتنع ليون وباريس وليل ومارسيليا وتولوز وستراسبورغ ورنس وبوردو عن بثّ المباريات عبر الشاشات العامة الموجودة في بعض أحياء هذه المدن.
وقد نشر موقع “آر تي أس إنفو” السويسري موضوعا عن كتاب “قطر في مائة سؤال” للصحافي كريستيان شينو الذي صدر أخيرا، بعنوان “قطر بلد صغير مؤثر يلعب على كل الجبهات”، ويستعرض استثمارات قطر الواسعة في أوروبا وقدرة خزينتها على امتلاك فنادق مشهورة وشركات كبرى مثل الخطوط القطرية للطيران وقناة الجزيرة، ثم يسأل عن أجندة قطر التي يرى أن ثمّة ربما خطرا منها.
ما هو هذا الخطر الذي لا يراه صحافي راديو فرنسا وحده، بل أيضا الأوساط الداعمة للسياسة الإسرائيلية تتهجّم منذ سنوات على قطر وتسيء لها بشكل منتظم. يكتب شينو أن قطر استطاعت أن تفرض وجودها وسيطا مع أطرافٍ لا يحب الغرب التعامل معها، مثل حركتي حماس وطالبان “والحركات السورية المتطرّفة”، لكن “المشكلة” برأيه هي التقارب الفكري مع “حماس” والإخوان المسلمين ومحاولات تمويل الإسلام في أوروبا. واذا كانت العلاقة مع “حماس” علنية، هدفها دعم الشعب الفلسطيني، وخصوصا في غزّة المحاصرة، فإن تمويل قطر الإسلام في أوروبا كذبة، فأمر كهذا خاضع لرقابة حكومية استثنائية في كل بلد. ومعلوم أن أحزابا في دول غربية هي التي تستنجد أحيانا، ولأغراض انتخابية، بطلب تمويل الجاليات العربية.
لم تبدأ هذه الحملة بعد حصول قطر على تنظيم كأس العالم في العام 2010، فقد تحرّكت أصوات إعلامية معروفة، مستنكرة ما سمته تغلغل قطر في الاقتصاد وشراء الشركات والاستثمارات الواسعة التي لا تُعجب بعضا متنفّذا هنا يستهدف قطر، وتركيز الإعلام الصهيوني على تشويه صورة قطر وتصنيفها داعمة للمقاومة الفلسطينية، لتكون البداية في الهجوم المستمرّ مع قرب افتتاح المونديال. ليس ذلك فحسب، بل التحقت بهذا الإعلام قنوات وصحافيون سويسريون من جنيف ولوزان، لبث دعوة المقاطعة في سويسرا على شاكلة تلك المدن الفرنسية. ورغم أن بعضهم كان بحماسة الفرنسيين، إلا أن الصحافية لور لوغان من صحيفة “لوتمب”، قلّلت، من على شاشة قناة “آر ت إس” من جدّية هذه الدعوات وأهميتها، ووصفتها بالديماغوجية والنفاق، وبالكلام غير المقبول الذي لن يوثّر كثيرا على متابعة المتفرّجين في العالم المباريات. والغريب انه حتى من دعا إلى المقاطعة وإدانة تنظيم قطر كأس العالم هو نفسه يقول إن من استفاق اليوم على هذه الدعوة وتذكّر حقوق الإنسان في قطر منافق ومتسلّق، لأنه جاء متأخرا!
لا تصمُد حجج من يتهجّم اليوم على قطر لتنظيمها مونديال 2022 أمام ما نُشر في صحف، مثل لوموند وغيرها، عن وفاة عمال آسيويين خلال بناء الملاعب وأماكن السكن وغيرها (وهم بالمناسبة ثلاثة فقط منذ العام 2010). لا تعود مناقصات البناء، بحسب “لوموند” (11/10/2022) لقطر، بل لشركة دوفنسي الفرنسية الكبرى. وقد رفعت دعاوى في المحاكم ضدّها في باريس منظمات من المجتمع المدني تعتقد أن هذه الشركة، وربما غيرها، تسجّل وفاة العمّال المتوفين في ورشات العمل بالسكتة القلبية، بدل تسجيلهم بالحوادث الحقيقية، كي لا تعوّض عوائلهم وذويهم عن الوفاة. أما عن حجّة تنظيم بلد صغير (وغير كروي!) كأس العالم، فإن الوقائع تشهد أن أعداد المشاهدين عبر شاشات التلفزيون تتعدّى مليارات من البشر، لأن الملاعب لا تستوعب الملايين.
تبدو الحملة الإعلامية الجارية حملة “أوساط معينة”، تستكثر على العرب تنظيم هذه المناسبة العالمية، بغرض تشويه صورة قطر وتعكير العلاقات بينها وبين دول أخرى، وهو ما أشارت إليه الصحافية السويسرية لور لوغان التي كتبت “لا مصلحة لنا بهذه الحملة، خصوصا في مثل الأوضاع الجيو- سياسية الحالية وأزمة الغاز، وكل ما ينشر يسبب توتّرا بيننا وبين قطر والعالم العربي الذي استهدفته الحملات الأوروبية غير المنصفة”.