رأي

قمة العشرين: هل هي لحظة توافق عابرة؟

كتبت يسرا الحربي, في الخليج:

عند النظر إلى قمة قادة مجموعة العشرين في جوهانسبرغ، لا يكفي القول «إنها أول قمة على أرضٍ إفريقية»، أو إنها «انتهت بإعلان توافقي»، إذ إن السؤال الأهم هو: أيُّ سردية تحاول جنوب إفريقيا تكريسها عن موقع القارة في النظام الدولي، وأيُّ معادلة جديدة بين القوى الكبرى والقوى المتوسطة تتشكل خلف تفاصيل البيان الختامي؟
في عام اتسم ب«حرب بيانات» بين عواصم كبرى، واستقطاب حاد حول المناخ والديون والحروب الإقليمية، اختارت جنوب إفريقيا أن تُحوِّل رئاستها للمجموعة من لحظة رمزية إلى اختبار لقدرة إفريقيا على إعادة تعريف التعددية نفسها، ومن هنا يبرز سؤالان متوازيان: إلى أي حد نجحت في «أفرقة» جدول الأعمال، وإلى أي مدى استطاعت حماية منطق العمل الجماعي في ظل الخلاف مع الولايات المتحدة، وغياب رئيسها عن القمة؟
من هذه الزاوية لا يمكن فصل اعتماد إعلان من ثلاثين صفحة في اليوم الأول عن صعود تحالف واسع من القوى المتوسطة رأى في جوهانسبرغ منصةً لتأكيد أن الخلاف مع واشنطن لا يعني بالضرورة تعطيل المنظومة المتعددة الأطراف، ولكن هذا التماسك الشكلي يفتح بدوره سؤالًا آخر: هل نحن أمام إعادة توزيع فعلية لوزن هذه القوى في صناعة القرار، أم أمام «لحظة توافق ظرفية» سرعان ما تعود بعدها قواعد اللعبة إلى ما كانت عليه؟
على مستوى المضمون الإفريقي، قدمت القمة ثلاث إشارات لافتة للنظر، تمثلت الأولى في الانتقال من مجرّد تشخيص أزمة الديون إلى اختبار إرادة الإصلاح، إذ أقر القادة بأن مستويات الديون الحالية تعرقل النمو الشامل في الدول النامية، وأُطلق «المسار المالي لإفريقيا» (2025-2030) لتحسين «الإطار المشترك»، وأدوات صندوق النقد والبنك الدوليين، ويعكس ذلك اعترافاً متزايداً بأن أكثر من نصف الدول الإفريقية تعيش بين كلفة خدمة الدَّين، ومتطلبات الاستثمار الاجتماعي، ولكن الحسم سيبقى مرهوناً بقدرة العواصم الإفريقية على تحويل هذه اللغة إلى إعادة هيكلة أكثر عدالة، بدل أن تبقى التعهدات محصورة في دعم «مبدئي» بلا جداول زمنية، ولا آليات محاسبة.
والإشارة الثانية تتعلق بالانتقال العادل بين سرديتين للطاقة، فعلى الورق تبدو مبادرات مثل «المهمة 300» لتوصيل الكهرباء إلى 300 مليون إفريقي، ومضاعفة الطاقة المتجددة ثلاث مرات، واعتماد إطار جديد للمعادن الحيوية، استجابةً مباشرةً لواقع يعيش فيه مئات الملايين بلا كهرباء، أو حلول طبخ نظيفة، في قارة تملك حصة معتبرة من المعادن الحيوية في العالم، غير أن جوهر المعادلة لا يتوقف على حجم التعهُّدات، بل على مَن يصوغ شروط هذا الانتقال: هل ستُترجَم هذه المبادرات إلى قيمة مضافة محلية وسلاسل تصنيع داخل القارة، أم سنكون أمام دورة جديدة من «استخراج أخضر» تعيد إنتاج التبعية في سوق الطاقة العالمي؟
أما الإشارة الثالثة، فتمسُّ الانتقال من الاعتراف بالأمن الإفريقي إلى سؤال استدامة مسارات السلام، فإدراج أزمات السودان والكونغو الديمقراطية والساحل في متن الإعلان، والتشديد على الحلول السياسية، ودعم جهود الوساطة، كلها مؤشرات إلى انتقال القضايا الأمنية الإفريقية من الهامش إلى جدول أعمال القمة، غير أن التجربة تُظهر استمرار وجود فجوة بين لغة الإدانة، ومتطلبات بناء السلام على الأرض.
وفي المقابل حملت ملفات المناخ والأمن الغذائي والصحة العالمية ملامح أوضح لعلاقة الصحة والتنمية بالأمن الجماعي، بداية من إعلان التزام تحقيق هدف 1.5 درجة مئوية، وتمويل المناخ، وأنظمة الإنذار المبكر، ونهج «أوبونتو» للأمن الغذائي، القائم على ترابط مصائر المجتمعات، إلى تأكيد استمرار دعم التغطية الصحية الشاملة والتأهب للأوبئة.
وهناك عنصر آخر لافت للنظر أيضاً يتمثل في الحضور الواضح لملف الرقمنة والذكاء الاصطناعي، فإطلاق مبادرات مثل «الذكاء الاصطناعي من أجل إفريقيا»، وإصرار الرئاسة الجنوب إفريقية على ربط التكنولوجيا بتقليص الفجوات التنموية، يعكسان وعياً متزايداً بأن الفجوة الرقمية قد تصبح أحد أكبر محددات عدم المساواة، وهو ما يفسر تعهُّد مجموعة العشرين بدعم البنية التحتية الرقمية في القارة، وتوسيع الوصول إلى قوة الحوسبة والبيانات بهدف تطوير أطر حوكمة للبيانات والذكاء الاصطناعي من داخل إفريقيا.
ومع ذلك يظل وجه الضعف البنيوي حاضراً: مجموعة العشرين منتدى طوعي لا يملك سلطة ملزمة، وإعلان جوهانسبرغ يبقى إطاراً إرشادياً أكثر منه خطة تنفيذية، ومن هنا تتحدد أهمية «اليوم التالي» للقمة: كيف ستستخدم العواصم الإفريقية هذا الإعلان وثيقة مرجعية في مفاوضات الديون وتمويل المناخ، وفي إعادة التفاوض على شروط الاستثمار في المعادن الحيوية والطاقة المتجددة، وفي بناء تحالفات مع القوى المتوسطة التي تشاركها في القلق من تآكل التعددية، وترى في إصلاحها مصلحة مشتركة؟
بهذا المعنى تبدو رئاسة جنوب إفريقيا لمجموعة العشرين انتصاراً دبلوماسياً لا يُستهان به، ولكنها في الوقت نفسه دعوة مفتوحة لاختبار مدى قدرة إفريقيا على تحويل لحظة الإجماع هذه إلى مسار مستدام يعيد تعريف موقعها في الجغرافيا السياسية والاقتصادية العالمية، من موقع «موضوع للسياسات» إلى شريك فاعل في صياغتها.

أخبار مرتبطة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى