رأي

قلق أطلسي عميق وسجال خشن

كتب ممدوح الشيخ, في العربي الجديد:

يخطئ من يحمّل دونالد ترامب (الشخص) مسؤولية المشهد الغربي الراهن. صحيح أنه يلخّص التحول الذي يجتاح جانبي الأطلسي، لكنه ليس سوى وجه من وجوهه. وخلف مشهد تغير كبير يشمل: العلاقات الدولية والاقتصاد والديمغرافيا والتقنية، تقبع أسئلة فلسفية عميقة لم تعد ثمة حاجة إلى الاجتهاد لاستكشافها، إذ فرضت هذه الأسئلة نفسها عبر منصّات غربية مؤثرة.

ووراء السجالات المباشرة في بعدها السياسي المحض (معركة الرسوم الجمركية، معدل الإنفاق العسكري للشركاء الأطلسيين الأوروبيين، والعلاقات مع الصين وروسيا، وغيرها من القضايا)، ثمّة أصواتٌ تحذّر من أن الأساس النظري الذي قامت عليه الظاهرة الكبيرة التي تسمّى الغرب تتصدّع “حرفيًا”.

النسخة الإنكليزية من مجلة INTERNATIONALE POLITIK QUARTERLY مجلة الشؤون الخارجية الرائدة في ألمانيا، (يوليو/ تموز 2025) عنونت من دون مواربة: “الغرب في حرب مع نفسه”. والنص بتوقيع أكاديميين أحدهما: جاكسون جينز الرئيس الفخري للمعهد الأميركي للدراسات الألمانية المعاصرة بجامعة جونز هوبكنز في واشنطن. وقد كتبا حرفيّاً أن “أميركا تشهد تحوّلاً منهجيّاً، له تداعيات عميقة على أوروبا”، وهو “ليس مجرّد خلاف سياسي، بل صراع حول معنى الحداثة، ويجري على مسرح عالمي”. لقد كتب الفيلسوف الفرنسي جان بودريار: “المواجهة بين أميركا وأوروبا لا تكشف عن تقارب” بل “صدع لا يمكن ردمه… ليست هناك فجوة بيننا فحسب، بل هوّة كاملة في الحداثة”. وبعد ثلاثة عقود اتسعت الهوّة.

ويتحدّث الأميركيون والأوروبيون لغة الحداثة نفسها، لكنهم يعنون أشياء مختلفة تماماً، وما يفسّره الأوروبيون باعتباره مشروعاً عالميّاً يرتكز على عقل التنوير، يقرأه الأميركيون بشكل متزايد من منظور الهوية. والخلاصة المتشائمة التي يخلص إليها الكاتبان أن مُثُل التنوير “تتآكل” في عَرَض لانقسام فلسفي، وأن “التنوير” يتحلّل. وفي سياسات الهوية، حيث يتفوّق العرق والدين على المثل المدنية. والنتيجة تآكل الفضاء العام المشترك.

ثمّة أصواتٌ تحذّر من أن الأساس النظري الذي قامت عليه الظاهرة الكبيرة التي تسمّى الغرب تتصدّع “حرفيًا”

وتعتبر هذه السردية أن نواة التحوّل الصلبة كانت في عهد الرئيس الأميركي السابق جورج دبليو بوش: حكم تقوده النخبة ويرتكز على “الوضوح الأخلاقي”، ولا يزال إرث هذه الحقبة قائماً، وأهم ثماره مناهضة العولمة التي يتبناها اليمين الأميركي. والعبارة الأكثر إثارة أن “الأمر بدأ كمشروع فكري باطني ثم تحول لأيديولوجية سياسية شعبية لا تثق في التنوع”. وحدث هذا في وقت تشبثت فيه نخب أوروبية بمُثُلٍ ما بعد قومية.

إن أوروبا تفكر من منظور ما تعتبره “الصالح العام” أما أميركا فتحتكم إلى قاعدة: “أميركا أولًا”، ويدور الصراع نفسه حول معاني: الديمقراطية، الهوية، والسلطة. والمعايير الليبرالية التي تشبه في روحها التطلعات الأوروبية، تُحتَضَر. “وما يجعل هذه اللحظة خطيرة على نحو فريد: شدّة الإيمان التي تحرك كلا الجانبين”، ويعتقد معسكر ترامب أن المخاطر وجودية، وأن تسوية هزيمة، وهم، بحسب هذه السردية، لا يسعون إلى تحقيق مكاسب سياسية، بل إلى الهيمنة. ولهذا عواقب، ليس فقط على الأميركيين، بل على حلفائهم أيضًا. فـ “ما يحدُث في واشنطن لن يبقى في واشنطن”.

أحد وجوه التحوّل الأميركي العميق (وهو مجرد مثال) مقال نشرته مجلة سيتي جورنال (يصدرها معهد مانهاتن لأبحاث السياسات، 1/5/2024)، اعتبرت كاتبته أن “عيد الفصح” يعلّمنا أن الحرّية ثمينة للغاية، “إلى درجة أن الإله التوراتي ذبح كل أبكار المصريين لإقناع فرعون بإطلاق سراح بني إسرائيل من العبودية”! وتضيف في مقارنة بين “فرعون الخروج” وحركة حماس: “كما كان بوسع مصر أن تنقذ نفسها … بمجرّد تحرير عبيدها، كان في وسع حماس أن تنهي الحرب قبل أن تبدأ بإطلاق سراح جميع الرهائن الإسرائيليين”. وهي تؤكّد أن كانت قصة “الخروج” لا تتعامل باستخفاف مع التكلفة الباهظة الضرورية لضمان الحرية “لكن الحرية غالباً تبدو رخيصة بالنسبة للذين لم يُحرموا منها قط”. والكاتبة تبرّر بل “تمتدح” قمع الطلاب الأميركيين المتضامنين مع الشعب الفلسطيني، بوصفه دفاعاً مشروعاً بل “ضروريّاً” عن الحرية، وهو صدى لفكرة استعمارية وقحة راجت في القرن 19 كانت خلاصتها أن جلب بعض الهمج إلى عالم الحضارة لا يتحقّق إلا بصنع “أمثولة”.

واليوم، على الأرجح، انتقلت ثنائية الهمجي/ المتحضّر إلى قلب الغرب نفسه، حتى لو لم تستخدم المصطلحات نفسها، وأصبح هناك خطاب “استئصال” يبرّر الدفاع عن الذات بمحو الآخر الغربي نفسه.

أخبار مرتبطة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى