رأي

قرار محكمة العدل الدولية والنظام الأخلاقي العالمي

كتب د. علي الخشيبان في صحيفة الرياض:

كان التغاضي العالمي عن السلوك الإسرائيلي لفترات طويلة سبباً مؤكداً في عدم وصول القضية الفلسطينية إلى حلول سياسية صارمة، ولعل أهمها حل الدولتين الذي ترفض إسرائيل الاستجابة له، فتصرفات إسرائيل لتحقيق مصالحها وإشباع رغباتها كان وما زال على حساب المنطقة وشعب فلسطين الذي يمتلك الحق ذاته في الحياة وعلى نفس الأرض..

قرار محكمة العدل الدولية منعطف تاريخي؛ وذلك عندما أمرت محكمة العدل الدولية إسرائيل باتخاذ إجراءات لمنع الإبادة الجماعية في غزة، وصوتت أغلبية أعضاء لجنة المحكمة المؤلفة من سبعة عشر قاضيا لصالح اتخاذ إجراءات عاجلة تلبي معظم ما طلبته جنوب أفريقيا باستثناء توجيه الأمر بوقف الحرب على غزة، هذا القرار هو الافتراض الصحيح أمام انتهاكات إسرائيل ورسالة مختلفة بأن العالم يجب أن يستند إلى مبادئ أخلاقية يتم تطبيقها على الجميع، لأن العالم عاش مع انتهاكات إسرائيل المتواترة لما يقارب من ثمانية عقود.

النظام الأخلاقي العالمي يفترض وجود قوانين تنطبق على الجميع، وكثيرا ما نجت إسرائيل تحت مفهوم الدفاع عن النفس من الالتزام بها، ولكن يبدو أن مخرجا انطلق من جديد في السياسة الدولية وعلاقتها في هذا المسار، فحتى إن لم يكن قرار محكمة العدل الدولية يحقق كل ما يستحقه سكان غزة، إلا أنه يشكل منعطفا دوليا في النظام العالمي يجب عدم التراجع عنه في محاسبة المعتدين على الإنسانية، فالحقوق التي يملكها الإنسان ليس لها علاقة بالأهداف السياسية فحق الإنسان الفلسطيني بالحياة والعيش واجب إنساني تقره الشرائع والمعاهدات الدولية.

إسرائيل وخلال ما يقارب من ثمانية عقود مضت لم تكن مستعدة للخير؛ بل على العكس من ذلك، لذلك حظي التاريخ بالكثير من القضايا التي وصلت إلى محكمة العدل الدولية خلال العقود الماضية ضدها ولكنها لم تصل إلى تحقيق العدالة التي يجب أن تكون موجودة في كل دول العالم دون استثناء، إسرائيل ارتكبت خطأ كبيرا عندما ذهبت في صراعها مع غزة إلى أبعد مما يجب وجعل العالم يفسر تصرفاتها رغبة نحو الإبادة الجماعية لسكان غزة التي يسكنها أكثر من مليوني إنسان، وليس من المنطق أن يكونوا جميعا هدفا في الحرب الدائرة.

إذا كانت إسرائيل بإعلانها الحرب على غزة ترى أنها مخولة في ذلك وفق معايير الدفاع عن النفس، فإن الواجب عليها أن تثبت للعالم أن وراء ذهابها لتلك الحرب قضية عادلة وليس هجوما على الإنسانية في مجتمع غزة دون تفريق في المعايير، إسرائيل التي باشرت الحرب على غزة عملت على استغلال الموقف لتحقيق أهداف متفرقة رفضتها محكمة العدل الدولية التي أثبتت بالأدلة والبراهين أن ما حدث في غزة تجاوز فكرة الحرب الطبيعية، فالتدمير والتهجير اللذان حدثا والقتل الشامل مشهد يصعب تصوره في الواقع الإنساني.

النظام الأخلاقي العالمي، ومن خلال قرار محكمة العدل الدولية، عليه اليوم أن يكون أكثر التصاقا بالقضية الفلسطينية التي عانت خلال العقود الماضية من انتهاكات كبرى، وهنا لا بد من استثمار هذا الموقف الدولي لتغيير التعامل مع القضية الفلسطينية، فالواقعية تفترض أنه كما لإسرائيل أهداف فإن للفلسطينيين أهدافا يجب تحقيقها، وهذا لن يتم إلا بوجود مرجعية أخلاقية دولية تلتزم بها المنظمات الدولية وتحرّض على تطبيقها، وعلى العالم اليوم أن يراقب السلوك الإسرائيلي بدقة أكبر ويوقف الحرب من أجل تحقيق التوازن في المنفعة والمصلحة المشتركة لطرفي القضية الفلسطينية.

لقد كان التغاضي العالمي عن السلوك الإسرائيلي لفترات طويلة سببا مؤكدا في عدم وصول القضية الفلسطينية إلى حلول سياسية صارمة، ولعل أهمها حل الدولتين الذي ترفض إسرائيل الاستجابة له، فتصرفات إسرائيل لتحقيق مصالحها وإشباع رغباتها كان وما زال على حساب المنطقة وشعب فلسطين الذي يمتلك الحق ذاته في الحياة وعلى نفس الأرض.

في النظام الأخلاقي الدولي دائما هناك مسار مصيب ومسار خاطئ، وإذا لم يتمكن هذا النظام الدولي من فرض الصواب على المسار الدولي، فإن الفوضى هي النتيجة المحتملة، الانحياز السلبي الذي عاشته القضية الفلسطينة تاريخيا كان ينتظر هذه اللحظة، فالحق الفلسطيني لن يختفي والتاريخ دائما ينتصر للحق ومعيار السلوك الإسرائيلي خلال العقود الماضية كفيل بالحكم على أفعال هذه الدولة وعدم عقلانيتها في التعامل مع الفلسطينيين في المواجهات العسكرية.

اليوم نشهد بداية اصطدام إسرائيلي مع مواقف دولية جديد ومفاجئة لإسرائيل التي لم تعتد عليها، فما حدث في غزة هو ضد كل المعايير الإنسانية، وتدمير غزة وسكانها بهذه الطريقة لم تستطع إسرائيل تبريره إلا وفق معادلة هشة وغير مقبولة، لأن عدد من قتل من الفلسطينيين كان مسارا محتملا نحو الإبادة الجماعية بلا أدنى شك، وهذا ما أدركته محكمة العدل الدولية ونطقت به في حكمها، فرص إسرائيل الفعلية هي التخلي عن أحلام بعيدة والعودة إلى الواقع وقبول مشروعات السلام التي تمنح الفلسطينيين حقهم، وإلا فالنتيجة المنتظرة انقلاب دولي تدريجي تجاه أفعال إسرائيل وسيفرض عليها مستقبلا ما يريده العالم وليس ما يريده نتنياهو.

أخبار مرتبطة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى