رأي

قرار المحكمة الاتحادية العليا العراقية.. تطاول على التاريخ

كتب عبدالله بشارة في صحيفة القبس.

ذكرني قرار المحكمة الاتحادية العليا العراقية حول اتفاقية تنظيم الملاحة البحرية في خور عبدالله بين العراق والكويت بالمضايقات السياسية التي عشناها في الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي، المحشوة بالتوتر والعصبية التي رافقت اتصالاتنا مع الحكومة العراقية للتصدي لأطماعها في الأراضي الكويتية عبر مخططها «الزحف المبرمج»، الذي يقضم بالتدرج مسافات صغيرة من أراضي الكويت التي لم يكن لها رادع سوى السلوك الكويتي الدبلوماسي الناعم الذي يتوقع التفهم لمشاعر الكويت، اعتماداً على منظومة التآخي العربية.

كانت آليات الرد استدعاء السفير العراقي والتعبير عن الاستياء والغضب، مع وعود السفير برفع الأمر إلى السلطات العليا في بغداد.

تسيد هذا الوضع الفترة من 1963 حتى الحرب العراقية – الإيرانية التي فتحت فيها الكويت أبواب التسامح، تأميناً لقدرة العراق للمواجهة على صد الهجمات الإيرانية، كانت الموانئ والمطارات والطرق الكويتية مسخرة لذلك الهدف، وبعد وقف إطلاق النار من عام 1988 وحتى الغزو في أغسطس 1990، كان رفض الكويت لمشروع اتفاقية أمنية حدودية قدمها العراق إلى الكويت توفر له موانئ وطريقاً خاصاً يتولى العراق مسؤولية الأمن فيه ممتداً من الشمال وحتى ميناء الشعيبة في جنوبي الكويت، وهنا أستذكر الموقف الصلب الذي تميز به الشيخ صباح الأحمد في رفضه لهذه المحاولات وإصراره على التزام الكويت باتفاقية الدفاع العربي المشترك، ولا شيء غير ذلك.

كانت المراسلات تتم بين سعدون حمادي والمرحوم الشيخ صباح الأحمد الذي كان معترضاً ورافضاً بصلابة، لكن هذه الصلابة لم تردع صدام حسين الذي قرر الغزو للتغلب على رفض الكويت لأطماعه، ومن نتائج الغزو وحصاده، جاء القرار التاريخي للقيادة الكويتية بالدخول في شراكة استراتيجية مع الولايات المتحدة وبريطانيا لتأمين استقرار الكويت والحفاظ على استقرارها وسلامتها الاقليمية، في خطوة واقعية ومنطقية، لكنها كانت تتصادم مع الفلسفة الدبلوماسية التي عشناها في الفترة من 1961–1990، وتتميز بالاعتماد على التضامن العربي ووحدة المواقف العربية واحترام ميثاق الجامعة العربية وسلامة الشرعية للدول الأعضاء، ومن هذا التبدل الاستراتيجي في دبلوماسية الكويت توفر الرادع الأمني الجدي الذي كان غائباً منذ الاستقلال في عام 1961.

قرأت محضر المحكمة الاتحادية العليا حول الاتفاقية، الذي أثاره نائب في البرلمان وجاء في حيثياته الإبطال لعدم الحصول على تأييد ثلثي الأعضاء كشرط للموافقة البرلمانية، مع سرد تاريخي غابت عنه الدقة ومملوء بتشويه الحقائق، ويشكل إضافات ليس لها تأثير.

وجاء الرد الكويتي على قرار المحكمة العراقية خلال اللقاء الذي تم بين سمو رئيس الوزراء ورئيس وزراء العراق السيد محمد السوداني في مدينة نيويورك، يوم العشرين من سبتمبر 2023، حيث أكد سموه على ضرورة الالتزام بأمن واستقلال وسلامة أراضي كلا البلدين، فضلا عن الاتفاقيات المبرمة بينهما والقرارات الدولية ذات الصلة، وعلى رأسها قرار مجلس الأمن رقم 833، الذي خط الحدود البرية والبحرية بين البلدين، حتى العلامة رقم 162 بحري، مجددا رغبة الكويت في الانتهاء من ترسيم الحدود البحرية الكويتية – العراقية لما بعد العلامة 162 خلال الأيام المقبلة وفقاً للقوانين والمواثيق الدولية.

ولم يتأخر رئيس وزراء العراق في الاستجابة للنداء الكويتي، حيث صدر تصريح له يؤكد فيه التزام العراق بجميع القرارات الدولية ذات الصلة، كما أكد التزام حكومته بسيادة الكويت ووحدة أراضيها وبالقوانين الدولية وقرارات مجلس الأمن، وجدد السوداني الالتزام عبر تصريحاته لصحيفة ذا ناشونال، الإماراتية، بأنه أكد للشيخ أحمد نواف الأحمد الصباح، رئيس وزراء الكويت، خلال اللقاء في نيويورك بموقف العراق ورغبته في مواصلة عمل اللجان المشتركة وأن تكون هناك زيارات متبادلة مستمرة بين المسؤولين والخبراء في البلدين بجميع المجالات لتعزيز مستويات التعاون وبناء الثقة، وأقر بمخاوف الكويت في ضوء ذكريات الغزو عام 1990، مؤكدا أن العراق بعد عام 2003، يختلف تماما عنه قبل ذلك الوقت، والعراق يعمل الآن على إقامة مشاريع عابرة للحدود وتطوير العلاقات مع جميع جيرانه ومنهم الكويت.

وعن قرار المحكمة الاتحادية العليا بإبطال اتفاقية خور عبدالله أشار السوداني إلى انقسام بين مختلف فروع السلطة في العراق، معبراً أن المسألة قضائية.

وقد سبق لمستشار الأمن القومي العراقي قاسم الأعرجي أن أكد احترام العراق سيادة الكويت، تاريخا وحاضرا ومستقبلا، بعد لقائه سفير الكويت في بغداد السيد فهد الفضلي، كما أكد السيد قاسم الأعرجي بأن التفاهم والحوار هما السبيل لحل جميع القضايا وفق مبدأ حسن الجوار ومن خلال اللجان القانونية المختصة، مشيراً إلى أن لقاء نيويورك الذي جمع رئيس الوزراء في البلدين أثبت موقف المحبة والاحترام تجاه الكويت.

يدرك العراق والمسؤولون فيه بأن قرارات مجلس الأمن تحت البند السابع من ميثاق الأمم المتحدة لا مجال للتردد أو التلاعب حولها…

وفوق ذلك لنا ثقة كبيرة في سلامة النوايا للمسؤولين في بغداد، ولا سيما رئيس الوزراء ومساعديه المؤثرين، وأنه لن تتأثر مسيرة رسم الحدود البحرية بهذا القرار، والمهم أن نتواصل مع المسؤولين في بغداد، وفي كل المسارات ليس فقط لحل المعلقات بل لنقل العلاقات إلى مرحلة تكاتفية يتوافر فيها العزم الكويتي القوي على بناء منظومة تجارية استثمارية كويتية في مدن العراق المختلفة، مدفوعةً بتلبية واجب الجوار والامتثال لنداء المصالح والتفاعل مع منطق المرحلة المقبلة في تعميق التواصل.

ويظل هذا الطموح معنا، مدركين إمكان تحقيقه طالما استمرت الحالة العراقية تستند إلى الدستور وحكم القانون، ونحن على ثقة من الوعي السياسي العراقي الذي عاش مأساة العبثية الصدامية في شؤون العراق ومغامراته التي دمرت العراق وسببت الأذى للشعب العراقي، الذي تحمل أثقال هذه المغامرات.

ولعل أبناء الشعب العراقي يتفهمون الحساسية الكويتية التي فجرها الغزو وحرصهم على أن تكون خطوات المستقبل آمنة خالية من ثقوب يتسلل منها المغامرون، مع قناعتهم بضرورة نقل العلاقات بين البلدين إلى ملف المكاسب في التجارة والتنمية، وأتوقع تحقيق ذلك الطموح بعد إنجاز الترسيم البحري، ليدخل البلدان في فضاء مريح يتميز بتبادلية الثقة وجودة المصالح وعقلانية السلوك.

عزاء الكويت لوفاة الشيخ مبارك عبدالله الأحمد

فقدت الكويت بوفاة الشيخ مبارك عبدالله الأحمد الجابر الصباح مخزوناً من القيم العالية، كان المرحوم الشيخ مبارك عبدالله الأحمد جاداً في الحق منتصراً للعدالة، نقياً في مفرداته، جاداً في مساراته، ملتزماً بقناعاته، رحباً في استقبالاته… هكذا كان في مجالسه…

كنت من الذين يزورونه في مجلسه قبل أزمته الصحية وبعدها في مجلسه في الفنطاس.

ورغم العارض الصحي كان محافظاً على وقاره متعالياً على عارضه الصحي، محصناً بكبريائه، كان وجوده قيمة مضافة للمجتمع، نتذكر تراثه الراقي بإعجاب، ونستذكر مجالسه باحترام، وندعو له بالخلود في جناته، مطمئنين لنزاهة سجلاته، وللأسرة الكريمة الصبر والسلوان لفقيد ظل رغم المرض، فريداً في سلوكياته، كبيراً في آلامه متحدياً أوجاعه… ومؤمناً بأن كل من عليها فان، ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام.

أخبار مرتبطة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى