قبل ماكرون ولودريان بعقود… الطائفية اللبنانية في فيلم حققه الفرنسيون.
في هذه الأيام يلفت نظر العالم من جديد، وكما كانت الأمور دائماً على أية حال، مقدار الاهتمام الفرنسي الرسمي، ولكن الشعبي أيضاً، بما يمكن تسميته دائماً “المسألة اللبنانية”، إذ من الرئيس إيمانويل ماكرون الذي كان أول مسؤول عالمي كبير يسرع إلى زيارة لبنان وتفقده بعد انفجار مرفأ بيروت قبل ثلاثة أعوام تقريباً بشكل لم يقدم عليه نزولاً إلى منطقة الانفجار أي مسؤول لبناني كبير على الإطلاق، من ماكرون إلى وزير الخارجية الفرنسي الأسبق جان – إيف لودريان الذي بات ينظر إليه كخشبة خلاص لإنقاذ لبنان مما هو فيه، ها هي فرنسا بتأييد لا حاجة للإفصاح عنه، من قطاعات عريضة من الشعب الفرنسي، تعتبر نفسها من جديد تلك “الأم الحنون”، وهو على أية حال تعبير ابتكره اللبنانيون لوصف علاقة فرنسا بهم، التي لا يمكنها أن تتخلى عن طفلها وهو في ساعات شدته.
اهتمام قديم
وفي هذا السياق، يعرف الناس أمرين لا بأس من التذكير بهما دائماً: أولهما أن هذا الاهتمام قديم للغاية، وثانيهما أنه لا علاقة له بأن فرنسا كانت منتدبة على لبنان، كقوة كولونيالية منذ ما بعد الحرب العالمية الأولى ولم تتركه، هي التي أسسته في ذلك الوقت المبكر كـ”دولة لبنان الكبير”. ففرنسا كانت ذات وجود كولونيالي منذ قرن ونصف القرن في عدد كبير من الدول والمناطق، فلم تتبق من علاقتها بها ولو أجزاء يسيرة من علاقاتها الباقية مع لبنان، فالعلاقة بينهما تجاوزت الأطر القانونية والودية إلى أبعاد عضوية لا مجال للتوقف عند تفاصيلها هنا.
ولكن في مقدورنا أن نتذكر انعكاس تلك العلاقة على مئات الأبعاد غير السياسية وغير التاريخية والجغرافية لنشير هنا إلى الأبعاد الفنية ذات الخصوصية الفائقة، وهي على أية حال مسألة عالجها كاتب هذه السطور في كتاب عنونه “بين الضفتين” صدر في البحرين عن “مركز الشيخ إبراهيم آل خليفة”، لكنه لم يوزع كما ينبغي للأسف، لكنه ليس موضوعنا هنا، موضوعنا هو عمل سينمائي بالكاد يذكره أحد اليوم يمكن اعتباره مع ذلك واحداً من أول الأفلام الحقيقية المكتملة التي مهدت لولادة “السينما اللبنانية” نفسها، ولكن أكثر من هذا، كان الفيلم الوحيد لعقود طويلة من السنين، الذي تجرأ في زمن مبكر، عام 1939، وفي وقت كانت فرنسا حينها تحكم لبنان، على طرح تلك القضايا الشائكة التي لا شك أنها تجابه اليوم معظم المساعي السياسية التي يحاول ماكرون ولودريان في ركابه إيجاد ترياق لما تسفر عنه مهددة بتدمير لبنان نفسه هو الذي بالكاد تجاوز مئوية ولادته الأولى: وعلى رأسها القضية الطائفية بالطبع، أي القضية نفسها التي تكمن اليوم في خلفية مساعٍ يقوم بها البعض، وهو أقلية لحسن الحظ، لتقسيم لبنان طائفياً تحت اسم “الفيدرالية” التي تبدو مضحكة في بعض جوانبها. مهما يكن، لعل ما يجدر بنا أن نفعله هنا هو العودة إلى الفيلم الذي نريد أن يكون موضوعنا الأساس هنا، وهو فيلم فرنسي عنوانه “جميلة تحت ظلال الأرز“.
قبل دخول اللبنانيين على الخط
من المتعارف عليه عادةً أن الفنان اللبناني الراحل علي العريس (1905 – 1965)، كان هو الذي حقق أول فيلمين لبنانيين طويلين روائيين “بياعة الورد” 1943 و”كوكب أميرة الصحراء” 1946، وأن السينما اللبنانية لم تبدأ بالفعل بالتطرق إلى القضية الطائفية التي هي بعد كل شيء قضية لبنان الحقيقية، وربما ستكون لاحقاً واحدة من القضايا العربية الشائكة على أية حال إلا بشكل متأخر، ومع ذلك، ثمة سابقة لافتة في الحالتين، مشكلتها الأساسية أنها تحمل تواقيع فنانين فرنسيين، وإن كان الفيلم المعني بها، يمكن اعتباره فيلماً لبنانياً، بمعنى من المعاني: فيلماً لبنانياً منسياً اليوم كلياً على أية حال.
هذه السابقة هي إذاً، فيلم “جميلة تحت ظلال الأرز” الذي كان عرضه الباريسي الأول، يوم الخامس من أبريل (نيسان) 1939، حدثاً كبيراً في تاريخ السينما الفرنسية، حتى إن لم يكن الفيلم قد اعتبر عملاً مهماً من الناحية الفنية، هذا الفيلم الذي كان طاقم العمل فيه، تحت إدارة المخرج شارل ديبيناي قد صوره، طوال ثلاثة أشهر في لبنان، ولا سيما في المناطق الجبلية الشمالية بين عكار وبشري (شمال لبنان) وجوارهما، يروي حكاية الفتاة البشرانية (نسبة إلى بشري) جميلة التي تقع في غرام الشاب يوسف، لكن هذا الغرام لا يمكنه أن ينتهي على خير، لأن جميلة مسيحية ويوسف مسلم، ولأن الاثنين يعيشان في مناطق رأى الفيلم أنها من أكثر المناطق تعصباً من الناحية الطائفية في لبنان، وهذا التعصب هو الذي يجعل من حكاية جميلة ويوسف حكاية شبيهة برائعة شكسبير “روميو وجولييت” مع الفوارق طبعاً.
رواية من سيد الرومنطيقيين
الحكاية، قبل أن تتحول، على يد شارل ديبيناي، إلى فيلم صور في لبنان مستغلاً جمال مناظره الطبيعية كأحسن ما يكون الاستغلال، كاشفاً للفرنسيين عن إمكانات هائلة للعمل في لبنان (إمكانات كان من شأنها أن تنعكس بصورة عملية لولا الحرب التي اندلعت في ذلك العام نفسه، والتي لم تنتهِ إلا باستقلال لبنان وضمور المشروع الفرنسي فيه)، هذه الحكاية قبل أن تصبح فيلماً، كانت رواية كتبها الرومانسي الفرنسي هنري بوردو، الذي كان قد سبق له أن عاش في لبنان وتجول في شتى مناطقه في سنوات الـ20، ثم كتب الرواية التي صدرت بالفعل، عام 1923، وحققت من النجاح ما جعل النقاد يقاربون بينها وبين رواية مشابهة كان موريس باريس كتبها قبل ذلك مستوحياً “ألف ليلة وليلة” خلال تجواله على ضفاف نهر العاصي بين سوريا ولبنان.
الدور الذي لعبه “العاصي” بالنسبة إلى باريس، لعبته غابات الأرز بالنسبة إلى بوردو، الذي قال لاحقاً في فرنسا إنه إنما كتب حكاية جميلة ويوسف انطلاقاً من أحداث حقيقية رويت له خلال إقامته في بشري، وإنه شاء منها أن تكون صرخة أدبية وفنية ضد التناحر الطائفي في لبنان، هذا التناحر الذي يدمر مصائر الأفراد، ويخلق أحقاداً من المؤكد، في رأي بوردو، أنها ستوصل لبنان إلى الكارثة ذات يوم.
دور جبراني ما
طبعاً لن نتوقف ها هنا عند صواب ما قاله بوردو، فالأمور أوضح من أن نعمل فيها تحليلاً وتأكيداً، سنتوقف عند أمر آخر هو الشبه الغريب بين شخوص وأحداث وحبكة “جميلة تحت ظلال الأرز” وبين ما يماثلها في “الأجنحة المتكسرة” لجبران خليل جبران، فهل يمكننا أن نستنتج من هذا أن جبران الذي كان قد سبق له أن “استعار” من طاغور ووليم بليك ومايكل آنجلو، “استعار” أيضاً من هنري بوردو، وإن كان الموضوع “المستعار” تدور أحداثه في بلدة جبران نفسها، أم أن بوردو نفسه اطلع على “الأجنحة المتكسرة”؟ أم أن الاثنين نهلا من نبع واحد؟ المهم أن رواية “جميلة تحت ظلال الأرز” تحولت إلى فيلم فرنسي عرض وأثار ضجة كبيرة في حينه، وإن لم تكن قد وصلتنا أية أصداء لبنانية عنه، بل حتى لدى مراجعتنا بعض الصحافة اللبنانية الصادرة في الأشهر السابقة على عرضه آنذاك، لم نجد أية أخبار تتعلق بإقامة فريق التصوير وعمله في مناطق الشمال اللبناني الساحرة.
اهتمام مستحق
يبقى أن هذا الفيلم الذي قامت به دينيز بوسك بدور “جميلة” ابنة بشري، وجوزيه نوغيرو بدور يوسف ابن عكار، وجورج بيكليه بدور بطرس قريب جميلة وصديق يوسف، يمكن اعتباره أول فيلم روائي طويل يصور في لبنان عن أحداث لبنانية تمس شؤون المجتمع اللبناني نفسه، وهو بهذا المعنى يستحق اهتماماً ومكانة من المؤسف أنه لم يحظ بهما حتى الآن، ولا سيما خلال المناسبات التي تتكاثر في أيامنا هذه لعرض الأفلام “الكولونيالية” التي صورت من قبل المستعمرين في بلدان الشرق وأفريقيا خلال الحقبة الاستعمارية.