صدى المجتمع

الترجمة في يومها العالمي: ترسيخ الحوار الحضاري واعتراف بالآخر.

في مناسبة اليوم العالمي للترجمة الذي تحتفل به الأمم المتحدة بحلول 30 سبتمبر (أيلول)، والذي اصطلح ان يكون بديلاً من عيد القديس جيروم مترجم الكتاب المقدس إلى اللغة اللاتينية، يطالعنا كتاب تيفين سامويو، الكاتبة والأكاديمية الفرنسية عن الترجمة، الصادر حديثاً (2023) عن (دار توبقال)، بالتعاون مع المؤسسة الفرنسية في المغرب، بترجمته العربية التي أنجزها الأكاديمي المغربي عز الدين الخطابي. أما عنوان الكتاب “الترجمة والعنف” الإشكالي، فهو بمثابة باب ينفتح على طروحات وإشكالات، تعالجها الكاتبة عبر فصوله العشرة.   

نشأة الترجمة

ولكن قبل الدخول في مضامين الكتاب وإشكالاته، لا بد للقارىْ أن يسائل نفسه أو غيره عن مكانة الترجمة في تفصيل من حياته اليومية، أو أن يمد خياله إلى ما سبق من الأزمنة، ويسأل: هل كان ممكناً للشعوب القديمة، بعد نشوء بابل الدهرية وخروج آلاف الألسنة (ستة آلاف لغة غداة القرن السادس عشر، فكيف قبله؟) واللغات إلى حيز الوجود أن تتفاهم الشعوب الناطقة بها في ما بينها، أو تعقد المواثيق وتنظم الخلافات، أو تنجز الاتفاقات بعد الحروب الدامية بينها، لولا المترجمون؟

إذاً، يمكن القول إن الترجمة، وإن تكن أولية قديماً وغير منهجية، فإنها أتت “تلبية لحاجة دينية أو علمية أو عمرانية أو سياسية أو غير ذلك” على حد قول الباحث لطيف زيتوني في كتابه “حركة الترجمة في عصر النهضة” (ص:11). وينطبق هذا الامر على الشعوب العربية التي ألجأتها حاجة التمكن في الحداثة إلى ترجمة الفلسفة وعلم الفلك والطب وغيرها عن اليونانية والسريانية والفارسية، قامت بها جماعة من النساطرة العارفين باللغة اليونانية والسريانية والعبرية، أمثال قسطا بن لوقا، وإسحق بن حنين، إلى جانب كتبة عارفين بالفارسية.

علماً أن أوروبا، في القرون الوسطى لم تكن بمنأى عن هذا المبدأ لما أقبلت على نهضتها، إذ عمدت إلى ترجمة النتاج الفلسفي العربي، وعلم الفلك، والرياضيات، والطب، وغيرها، وبقيت العربية اللغة الأجنبية الأولى في اعتبار الجامعات الأوروبية حتى القرن الثالث عشر، لأن منها مصادر العلم والمعارف ومنها ينبغي النقل إلى حين.

 أبعد من اللغة

ولكن مهلاً. لم تعد مهمة الترجمة محصورة بنقل المعارف فحسب، وإنما تعدتها إلى “التقريب بين الدول وتسهيل الحوار والتفاهم والإسهام في التنمية وتعزيز السلام والأمن العالميين” كما جاء في إعلان الأمم المتحدة، تعليلاً ليوم الترجمة العالمي، على ما أشرنا سابقاً. بل غدت الترجمة، مطلع العقد الثالث من القرن الـ21 ميداناً رحباً لكثير من التجاذبات قبولاً ورفضاً، بين كتاب في الغرب صانعي معرفة وبين قراء ترجماتهم، لا سيما الأكاديميون منهم. وهذا الأمر بات يعني أن الترجمة بما تعنيه من نقلا للأفكار وتحفيز للعقول، وتسويغ لمواقع اجتماعية وسياسية، وتنبيه لحقائق وتشويهاً لأخرى، استدعت أن يقف منها المفكرون والمثقفون العرب موقف المتبصر في جوانب الترجمة، لم تكن لتؤخذ في الاعتبار لزمن قريب خلا، ومن هذه الجوانب مسائل الترجمة الفعلية أو اللسانية التي تطرق اليها جورج مونين (المسائل النظرية في الترجمة)، في ستينيات القرن الماضي، والتي تجاوزها أغلب الكتاب الغربيين المعاصرين، ومنهم المؤلفة تيفين سامويو، الذين اعتبروا ميدان الترجمة وسيطاً بات خاضعاً، اليوم، لكل أنواع العوامل، تأتيها من المرسِل (أي مؤلف النص،)، والرسالة 1 (أي النص الأصلي، أو الكتاب مادة الترجمة)، والمرسل إليه (أي جمهور قراء النص المترجَم)، والرسالة 2 (أي النص مترجماً إلى لغة أخرى، وافترض ان تكون اللغة العربية). وهذه الجوانب، كما أشرنا، تتخطى بكثير معضلات الفوارق الصرفية والنحوية والمعجمية والنظرة إلى العالم التي تكون عليها لغة دون أخرى، أو لغة في مقابل الأخرى (وإن تكن صحيحة بحسب مونين) لا سيما إذا كان النص المترجَم شعراً متعدد الأبعاد، أو خطاباً كونياً يتجاوز إطاره المجتمعي الصادر عنه.

“أترجمُ كي أبقى وجهاً لوجه/ بصمت/ في مرآة اللغة/ أترجمُ كي ألتقي بذاتي/ هناك حيث لم أعدْ موجوداً/ لكي ألتقي بالآخرين/ هناك حيث لا يمكنهم بعدُ أن يوجدوا” (ص:14)

ومن هذا المنطلق تمضي الكاتبة سامويو، في الفصل الأول من كتابها، لتقول إن الترجمة فعل مفارق، بطبيعته، للأحادية وللشوفينية العرقية، وسواء كتب الخطاب المعاصر بالفرنسية، أو بالانجليزية، أو غيرها فبمقدوره أن يكشف عن الحقيقة، على حد قول جورج غادامر، أو يكون نظيراً للفكر، وفق والتر بنيامين، أو يكون بمثابة استضافة على قولة أنطوان بيرمان. وبناء على ذلك التعريف المفارق، تسم الكاتبة خطاب أوروبا بسمة المتعدد والمتنوع، حتى ليصح فيه قول الفيلسوف والسيميائي أومبرتو إيكو بأن “لغة أوروبا هي الترجمة” (ص:20). وفي ضوء تلك السمة التي استنتجتها الكاتبة من كبار المفكرين الأوروبيي النزعة، ومؤسسي اتحاد دولها، خلصت سامويو إلى وجوب أن يكون كل مترجم متعدد الألسن، وأن تكون اللغة العربية (وهي إحدى اللغات الست المعتمدة في الأمم المتحدة) موضع عناية المجتمع الأوروبي، ومدخلاً إلى التواصل الفعال مع العالم الإسلامي والمشرقي بعامة.

في المبحث أو الفصل الثاني من الكتاب، تعالج الكاتبة عديداً من الظلامات التي وقعت في حق اللغات المنقولة إلى اللغات الأوروبية، والتي تعدها سامويو نوعاً من العنف مارسه المترجمون، الأوروبيون إبان غزوهم الاستعماري بلاد المكسيك، أو لدى استعادتهم الأندلس، في إسبانيا، وكيف أن المترجمين، ومن ورائهم السلطات الغازية أو الشوفينية، جهدوا في محو كل أثر للغات المحلية (في أميركا الجنوبية) بعد أن كان فيها ما يقارب الالف لغة. ونحسب الأمر نفسه حادثاً في إسبانيا غداة عام 1492(عام استعادة الإسبان كامل الأندلس، وطرد العرب منها) على ما تقول الكاتبة، حين انقرضت الثنائية اللغوية، بل الثلاثية (العربية، والعبرية، واللاتينية) لصالح الإسبانية منفردة، واستتباعاً جرى تحويل كثير من أسماء الأمكنة من العربية إلى الإسبانية، ما عدا استثناءات.

في الترجمة صراع

وحتى لا ينحرف الجدال عن مساره، تستدرك المؤلفة أمرها، وتقول إن العنف، بل الصراع كامن في عملية الترجمة نفسها أيضاً، ولا تقتصر على سياسات الترجمة المفروضة من الجماعات والدول فحسب، ذلك أن عملية الترجمة تطلق صراعاً أولياً بين لغتين، اللغة الأم، التي يراد الترجمة إليها، وبين اللغات الأجنبية التي يترجم منها. أما الصراع الثاني فيكمن في اضطرار المترجم إلى “تعويض الملفوظ الأصلي بملفوظ آخر” (ص:57)، وتعريض النص الأصلي للتهشيم والتقطيع أجزاء، لتتسنى له مواصلة الترجمة إلى ختامها. ومن المعلوم أن الصراع الأخير قد لا ينتهي فصولاً، بالنظر إلى إمكانات وصيغ كلامية ممكنة، تجعل من الترجمة عملاً نصياً مستدامَ التكون، بالتالي، يتعين أن تنشأ لغة ثالثة تكون إطاراً للنص المترجَم نتيجة للبدائل المتاحة.

ومن أجل عرض تصورها عن الصراع في الترجمة، تورد الكاتبة أمثلة عن ترجمات لمسرحية “هاملت”، ولشعر غوته، وشيلر، قام بها فرنسيون ناطقون بالألمانية، وإنجليز، وألمان، شأن كزافيي مارمييه أهم المترجمين الفرنسيين الناطقين بالألمانية، إذ اعتمد على البحر الشعري الإسكندري. وما لبث أن تخلى عن الصيغة الشعرية لدى ترجمته شعر شيلّر. وبهذا يكون المترجم انتقل من ذروة العنف، المتمثل في درجة العنت والصعوبة التي يتكبدها المترجم لتكوين المعادل الشعري، إلى الأقل عنفاً، وذلك بفضل خبرته، وليس بناء على ضوابط جماعية.

وتنهي الكاتبة مبحثها حول الترجمة الصراعية بإعطاء مثال أخير هو ترجمة جون فلستينر قصيدة “الهروب” للشاعر بول تسيلان، إلى الإنجليزية، التي تصفها بأنها “صيغة رائعة …تعكس القرابة القائمة بين اللغتين الألمانية والإنجليزية واختلافهما في الآن نفسه”، إذ يورد المترجم مقاطع بالألمانية إلى جانب الإنجليزية. “يا حليب الصباح الأسود، نشربك في المساءات/ نشربك عند الظهيرة وفي الصباحات، ونشربك في الليل/ نشرب ونشرب/ يعيش المرء في المنزل، يلعب مع الأفاعي، يكتب/ يكتب عندما يلقي الظلامُ ستاره على ألمانيا، شعرُكِ الذهبي يا مارغاريت/ شعرُكِ المرمّدُ يا شولاميت، نحفرُ قبراً في الهواء حيث لن يكونَ استلقاؤكِ…” (ص:67)

الرؤية البديلة

ولئن كان العنف في الترجمة الأدبية، وفق ما تقصده المؤلفة سامويو (نوعاً من المكابدة في النقل إلى لغة أخرى، وإقصاءً للغة المغلوبين، والمستعمَرين، والجنوبيين، والأقليات المجتمعية) هو الظاهرة الأبرز في هذه الدراسة، فإن الأخيرة تنطوي على تصور بديل قوامه مرتكزات آتية:

– إعادة تعريف الترجمة باعتبارها عاملاً على ابتكار اللغة المتَرجم بها، وعلى أنها كتابة أدبية أخرى، تقل عن الأصل، وأن عديداً من كبار الكتاب في العالم (بول تسيلان، ولو كسون، وموراكامي هاروكي، وايف بونفوا…) كانوا مترجمين.

– لزوم إطلاق خلُقية الاختلاف على ما يدعو لورنس فينوتي، ويعني هذا الأمر أن تنفتح الترجمة والمترجمون على آفاق اللغات الأخرى، وما تتيحه من ثراء لغوي وفكري ومعنوي، ما يجعلها أكثر إبداعاً وتجديداً.

-اعتماد معيار العدل في الترجمة الأدبية وفقاً لميثاق الترجمة الصادر عن الجمعية الدولية للكتّاب، بحيث تسعى الترجمة إلى الدفاع عن “التنوع اللغوي والثقافي بالنسبة إلى المجموعات المهمشة” (ص:138)، وتؤدي دوراً في إسماع صوت الضعفاء والمهاجرين والمضطهدين في بلادهم.

-أما معيار الملاءمة فاتباعه يتيح للمترجم أن يأخذ في اعتباره خصوصيات اللغة المترجَم عنها، كأن لا يكتفي على سبيل المثال، برصده “فيزياء الموسيقى” في “ألف ليلة وليلة”، بل يعمد إلى تضمينها في نص ترجمته أيضاً، على أن الدقة في الترجمة، وإن تكن معياراً لازماً لاختيار العبارات والصيغ والتراكيب الأنسب، فإنها تنطوي على نظرات غير متكافئة بين اللغات المتقابلة

تجدر الإشارة، في الختام، إلى أن المقالة أضيق من أن تتسع لفيض الآراء في الترجمة الأدبية الواردة في كتاب تيفين سامويو على رغم  صغره النسبي (232 صفحة).

تخطر لنا، بمناسبة عرض الكتاب في يوم الترجمة أن نحيي المترجمين العرب الذين كرسوا حياتهم وجهودهم في سبيل أن يخرجوا لنا تحفاً أدبية عربية متكافئة أو مناسبة بدرجة أقل قليلاً للتحف الأجنبية المنقولة، راحلين وأحياء. ولربما ندرك الحاجة إلى تصنيف أدبنا الترجمي، أو ترجماتنا الأدبية، وننظر في خلقيات ممارستنا للترجمة على ما تدعو إليه تيفين سامويو، أو عسى تتكون مدونة نسبية لترجماتنا الأدبية إلى اللغة العربية ومنها إلى غيرها من اللغات، تمهيداً لدرسها واستخلاص العبر منها.

 للكاتبة سامويو أعمال بحثية أهمها: “الأدب والذاكرة”، و”التناص: ذاكرة الأدب”، وروايات: “ساحة الوداع”، و”اليد السلبية”، و”بهيمة السيرك” و”تساهلات”.

أخبار مرتبطة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى