رأي

قازان… جنديّ روسيا المجهول

في ما يأتي، عصارة جولة لـ«الأخبار» في قازان، عاصمة «الجمهورية الاقتصادية» لروسيا، والتي وجدت نفسها، مرة جديدة، في «قلب المعركة».

كتبت ريم هاني, في الأخبار:

في قلب قازان، عاصمة «جمهورية تتارستان» التابعة للاتحاد الروسي، تمتدّ «جامعة قازان الفيدرلية»، التي تأسّست عام 1804، على أكثر من 50 مبنى في المدينة. وفي أحد صفوفها القديمة، مقعدان خشبيان، لكلّ منهما قصته الخاصة.
خرّجت الجامعة مجموعة من العلماء الكبار في مجالات الكيمياء والطبّ والهندسة، من بينهم البروفيسور ألكسندر أربوزوف، الذي كسر عام 1915، الحصار المفروض آنذاك على روسيا، والذي كان يمنعها من استيراد الأدوية، وتحديداً الأسبيرين، من دول مثل ألمانيا، بعدما توصّل إلى اكتشاف البديل الروسي للأسبيرين، والذي كان يتمّ إرساله بأكمله تقريباً إلى الخطوط الأمامية في أثناء الحرب العالمية الأولى.

  • «جامعة قازان الفيدرلية»«جامعة قازان الفيدرلية»

كذلك، درّبت الجامعة المئات من الممرّضات والأطباء الذين ذهبوا إلى الجبهة الأمامية منذ السنوات الأولى للحرب.
على أنّ أكثر ما طبع تاريخ الجامعة، على الأرجح، ليس التلامذة الذين خرّجتهم، بل أولئك الذين «طردتهم»، لا سيّما عندما يكون المطرودون من مثل فلاديمير لينين، وليو تولستوي. فبعدما حاول شقيقه اغتيال القيصر ألكسندر الثالث عام 1887، مُنع لينين، من التسجيل في جامعتَي موسكو وسانت بطرسبرغ، اللّتين تقعان في الشقّ الغربي من روسيا، والمعروف آنذاك، بقمعه لأي أصوات معادية للقيصر.

وقد استقبلت لينين، مع غيره من «المتمرّدين»، «جامعة قازان»، التي كانت معروفة بأنها «الملاذ» الأنسب للثوار. ومع هذا، اضطرّ لينين، إلى توقيع وثيقة يتعهّد فيها بعدم الانضمام إلى أي «دوائر ثورية»، من دون أن يلتزم، عملياً، بذلك، ممّا أسفر عن طرده بعد ثلاثة أشهر فقط. وبعدما لم تفلح محاولات عودته، قرّر أن يتابع دراسته بنفسه. أمّا ليو تولستوي، وهو أحد عمالقة الروائيين الروس، فـ«صمد» ثلاث سنوات في الجامعة، بعدما تقلّب في الاختصاصات ما بين دراسة اللغات والحقوق، من دون أن ينال علامات كافية، قبل أن يختار، بدوره، متابعة دراسته بنفسه. ولذا، يمكن لمن يزور الجامعة، اليوم، رؤية مقعدين، ألصقت لافتتان صغيرتان عليهما، كتب فيهما: لينين وتولستوي «جلسا هنا».

الجمهورية «الصناعية»
لقازان «الكرملين» الخاص بها، والذي يضمّ مسجد «قول شريف»، المسجد الرئيس للمدينة والجمهورية ككل، فيما تقع على مقربة منه «كاتدرائية البشارة»، وبرج سیومبیكا «المائل». وعلى الأرجح، تعتبر قازان، من المدن «النادرة» التي يعدّ فيها القرب الجغرافي بين المساجد والكنائس، «انعكاساً فعلياً» للتعدّدية والتعايش.

  • برج سیومبیكا «المائل»برج سیومبیكا «المائل»


فرغم التقلّبات وبعض المحطات «المؤلمة» التي شهدتها الجمهورية، وما اقترن بها من قمع لبعض الفئات، وعلى رأسهم المسلمين، تحديداً في أثناء حقبة «إيفان الرهيب» في القرن السادس عشر، حيث قتلهم وهدم مساجدهم، فإنّ الجمهورية تضمّ اليوم 4 ملايين نسمة، من 175 قومية، يعيشون في «سلام ووئام»، على مساحة تبلغ 68 ألف كيلومتر مربع. وتعتبر التتارية والروسية اللغتين الرسميتين في البلاد، التي ينتمي أكثر من نصف سكانها إلى الديانة الإسلامية. ورغم عدم معرفة كثيرين بها، لا تزال «جمهورية تتارستان»، لا سيّما في ظلّ الحصار المفروض على موسكو، أشبه بـ«الجندي المجهول» لروسيا، التي تخوض حرباً شرسة مع العقوبات الغربية.

أكثر ما طبع تاريخ «جامعة قازان»، على الأرجح، ليس التلامذة الذين خرّجتهم، بل أولئك الذين «طردتهم»

ولدى الاحتكاك بسكان المدنية ومسؤوليها، تبدو رغبتهم في عكس عاداتهم وتقاليدهم، من أكل ورقص وغناء، جنباً إلى جنب الدور الكبير الذي تؤدّيه جمهوريّتهم في الاقتصاد الروسي، واضحة، خصوصاً أنّ الغالبية العظمى من الناس تعرف «موسكو وسانت بطرسبرغ جيداً، وتجهل سائر المناطق»، التي تستحق أن يتمّ التعرّف إليها، بما في ذلك تتارستان، وفقاً لما تؤكّده تالیا مینولینا، مديرة «وكالة تنمية الاستثمارات» في الجمهورية، في حديث إلى «الأخبار».

على أنّ لذلك «الشعور» أسساً مادية؛ إذ تعَدّ الجمهورية «بوّابة» الاستثمار في روسيا، ومركزاً لأكبر صناعاتها؛ وفي حين يتمّ استخراج 33 مليون طن سنوياً من حقول النفط الواقعة فيها، يُكرّر جزء كبير منه داخل الجمهورية نفسها. ورغم أنّ روسيا تتكوّن، إدارياً، من 89 منطقة فيدرالية، فإنّ جمهورية تتارستان كانت تنتج، حتى عام 2024، 30.2% من مجمل الشاحنات في البلاد، و61.7% من إطارات شاحنات النقل الثقيلة، و41.2% من المطّاط الروسي، وغيرها من الصناعات المهمّة.

  • مسجد «قول شريف»مسجد «قول شريف»


كذلك، تضمّ الجمهورية أكبر شركات الهندسات الميكانيكية، والمتخصّصة بصناعة السيارات والطائرات، والتي تعمل لصالح وزارة الدفاع – أي في الصناعة الحربية-، بالإضافة إلى الصناعة المدنية، ممّا يجعلها من أكبر المصدّرين إلى الخارج في هذا المجال. وطبقاً لمینولینا، تتصدّر «تتارستان»، المركز الأول في إنتاج الحليب والبطاطا والخضروات والحبوب على امتداد روسيا، ما يجعلها من «المناطق القليلة جدّاً» القادرة على تأمين الاكتفاء الذاتي والأمن الغذائي.

وبصورة أعمّ، يقوم اقتصاد الجمهورية بنسبة 50% على الصناعة، جنباً إلى جنب كونها «العاصمة الرياضية» للبلاد، والتي يزورها نحو 4 ملايين ونصف مليون سائح. كما تستثمر نحو 40 دولة، أكبرها تركيا، في الجمهورية اليوم.
وردّاً على سؤال حول تأثير العقوبات على اقتصاد الجمهورية، تؤكّد المسؤولة الروسية نفسها، لـ«الأخبار»، أنّ الاستثمارات لا تزال في نموّ «وإن اختلفت نسبتها» في أثناء الأحداث الاستثنائية، من مثل جائحة كورونا أو مدّة العقوبات».

وطبقاً للمصدر نفسه، فإنّ «العقوبات كانت لها فوائدها»، نظراً إلى أنّ بعض الشركات الغربية انسحبت من روسيا لتدخل مكانها الشركات العربية، والتي استثمرت في مجالات عدّة، من مثل الذكاء الاصطناعي والسياحة. وتردف: «عانينا من نقص في المعدّات الصناعية التي لم نكن قادرين على تبديلها، ممّا أثّر سلباً علينا»، مشيرةً إلى أنّه «إذا نظرنا إلى إيران من منظور اقتصادي، فإنها تعرّضت إلى سنوات طويلة من العقوبات، ومع ذلك تطوّرت اقتصادياً وفي مجال التكنولوجيا». وتختم بالقول: «نتمنّى ألّا تستمرّ العقوبات على روسيا لأربعين عاماً، إلا أنّ الدول تجد حيَلها وطرقها في العمل، وهو ما تكشفه الأرقام نفسها».

أخبار مرتبطة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى