رأي

قادة جيوش العالم الثالث يستولون على الرئاسة ولا يُنتخبون!

سركيس نعوم- “النهار”

يفترض اللبنانيّون أنّ لقائد #الجيش العماد #جوزيف عون رغبة جامحة لكن مكتومة في الانتقال من اليرزة مقرّ وزارة الدفاع وقيادته العسكريّة إلى قصر بعبدا رئيساً للجمهوريّة بعد انتهاء ولاية الرئيس الحالي ميشال عون. لا ينبع افتراضهم هذا من كلام قاله أو أوحى به لديبلوماسي أو لإعلامي أو لأصحاب قرار في دول كبرى معنيّة بلبنان واستحقاقاته الكبيرة المتنوّعة مثل الولايات المتّحدة وفرنسا وربّما غيرهما، بل ينبع من تجارب رئاسيّة عسكريّة أربع كان واضحاً أنّ بعض أصحابها راغبٌ في شدّة في التربُّع على سدّة الرئاسة الأولى، وقد عبَّر في حينه أحدهم عن ذلك بالقول لعاملين معه “من اليرزة أذهب إلى بعبدا أو مباشرة إلى بعبدات”. عنى بذلك أنّه لن يقبل تمديد قيادته للجيش وتأجيل وصوله إلى الرئاسة أو صرف النظر عنها.

أمّا البعض الآخر فكانت رغبته الرئاسيّة غير مُعلنة لكن كبيرة وقد اشتغلها مع سوريا بصمت وبعيداً من الإعلام، وكانت لا تزال في لبنان في حينه. وحده الرئيس الحالي عون كان مُستقتلاً للوصول إلى الرئاسة مهما تكُن كلفة هذا الوصول ولا سيّما على اللبنانيّين كلِّهم، وخصوصاً على الذين كان واحداً منهم في أيّام الحرب. وقد كلّف سعيه إلى الرئاسة منذ 1988 لبنان كلّه و”الشعب” المسيحي الذي ينتمي إليه الكثير من التضحيات والخسائر وحتّى الخراب. ولم تكُن كلفة تربُّعه على سدّة الرئاسة قبل نيِّف وخمس سنوات أقلّ على اللبنانيّين بـ”شعوبهم” كلِّها من كلفة سعيه الطويل إليها.

أمّا الرئيس الراحل فؤاد شهاب مؤسِّس الجيش اللبناني وقائده منذ الاستقلال فلا يستطيع أحد إنكار وجود ميلٍ رئاسيٍّ له. وقد اتّهمه أخصامه بأنّ مواقفه خلال “ثورة 1958” وخلافه مع رئيس الجمهوريّة في حينه كميل شمعون بسبب رفضه اقتراحه إنزال الجيش لإنهاء “الثورة” كانت تُخفي ميلاً شديداً عنده إلى الرئاسة. لكنّ الإنصاف يقتضي الاعتراف بأنّ حكمته هي التي أملت عليه الموقف المذكور، وقد أثبتت التجارب اللاحقة منذ 1958 حتّى اليوم صحّة تشخيصه للوضع اللبناني وخطورة الاستعانة بالجيش لقمع أيِّ احتجاج أو تمرُّد على وحدته كما على “الوحدة الوطنيّة” وإن ضعيفة واستقرار البلاد. طبعاً لا يستطيع أحد دخول القلوب ومعرفة سرائرها للجزم في موضوع سعي شهاب إلى الرئاسة. لكنّ سعيه في حال ثبوته لم يكُن على حساب لبنان وازدهاره ووحدته ودولته مثلما كانت حال آخرين غيره من كبار السلك العسكري، كما من كبار رجال السياسة في البلاد وحتّى صغارهم وإن بالنفوس.

انطلاقاً من ذلك لا يمكن الجزم بوجود أو بعدم وجود رغبة رئاسيّة دفينة عند القائد الحالي للجيش العماد جوزف عون. لكنّ السؤال الذي يُطرح هنا هو هل يعمل هذا القائد للوصول إلى بعبدا؟ وهل هناك مُستمسكات عليه تؤكّد ذلك؟

الجواب عن السؤالين ليس سهلاً. لكنّ جهات فاعلة جدّاً في البلاد تشير إلى وجود شخصيّات أو بالأحرى أشخاص قريبين منه ينشطون من أجل ترئيسه، لبعضهم علاقات بجهات فاعلة إمّا ناخبة وإمّا مؤثّرة، وفي الوقت نفسه من أجل تحقيق طموحات لهم في أثناء رئاسته إذا وصلت إليه. طبعاً هذا الموضوع ليس مهمّاً على أهميّته. فالناخب المحلّي – الإقليمي الأساسي لرئيس لبنان هو في هذه المرحلة “حزب الله” – إيران الإسلاميّة، والمحلّي منه يرفع شعار جيش وشعب ومقاومة. يوحي ذلك بوجود ثقة له بالجيش قيادة وقاعدة. لكنّ المُتابعة اليوميّة للعلاقة بين الاثنين منذ وصول عون إلى اليرزة حتّى الآن أوحت أكثر من مرّة أنّ الثقة التامّة بالجيش ليست كبيرة، وأنّ التنافس بينه وبين “المقاومة” وشعبها مستمرٌّ. أمّا عدم وصول العلاقة إلى حالٍ صداميّة فسببه حرص الجيش على وحدته وإعداد نفسه لمهمّات وطنيّة توحيديّة عندما يحين الأوان. وسببه أيضاً حرصُ “حزب الله” على عدم قطع الخيوط مع المؤسّسة العسكريّة التي سيحتاج إليها بسبب انخراط لبنانيّين من كلّ “الشعوب” فيها سواء في حال حربٍ مع إسرائيل أو إذا جنحت البلاد إلى الهدوء وبدأت مسيرة الحلول لمشكلاتها الكثيرة والأزمات. طبعاً هناك مشكلة على هذا الصعيد. فـ”الحزب” وحلفاؤه من خارج لا يستحسنون اهتمام الولايات المتّحدة بالجيش وبقائده وأيضاً اهتمام فرنسا وعرب الخليج في السابق طبعاً. ويخشون أن يكون أداتهم لحسم الصراع الدائر في لبنان وهو طائفيّ ومذهبي داخلي وعربي – إيراني وغربي – إيراني، وليس أداة وطنيّة للدفاع عن نفسه في وجه إسرائيل. لهذا السبب لا يزوّده “الغرب” بما يحتاج إليه للصمود أمام تحدّياتها العسكريّة له. في اختصار، لا تستطيع قيادة الجيش ومرجعيّتها السياسيّة الرسميّة اتّخاذ قرارات “حاسمة” لمعالجة مشكلات مهمّة في البلاد خشية تصدّع وحدته. كما أنّ “حزب الله” ومرجعيّته الإقليميّة لا يستطيعان اتّخاذ قرارات تفرط الجيش وتورّطهما في حرب أهليّة سيكون الجميع خاسرين فيها.

في أيّ حال يقول الذين سمعوا الأمين العام لـ”حزب الله” السيد حسن نصرالله في خطاب أخير له يمدح الجيش تساءلوا عمّا إن كانت الثقة بين الجيش و”المقاومة” تعمّقت. علماً بأنّه أكثر من مرّة في السابق. التساؤل مشروع. لكنّ الجواب عنه ليس إيجابيّاً، إذ إنّ اللهجة التي واكبت الكلام الأخير لـ”السيد” عن الجيش رافقها افتخار واعتدادٌ بالنفس وبالصواريخ الدقيقة والقدرة على تحويل غير الدقيقة دقيقة وببدء تصنيع المُسيّرات. هذا الكلام على صحّته لا يعكس اقتناعاً بأنّ الجيشين الرسمي وغير الرسمي سيُصبحان يوماً ما جيشاً واحداً كما الجيش و”الحرس الثوري” و”الباسيج” في إيران مثلاً. بل يعكس اقتناعاً بأنّ محور “الحزب” – إيران وشعب الأوّل وبعض “الحلفاء” سيكونون السلطة. علماً بأنّ قيادة الأخير تعرف أنّ قائد الجيش لم يتورّط في أيِّ عملٍ يؤذي “المقاومة” أو في تسريب معلومات تهمّ الولايات المتّحدة وقبلها إسرائيل رغم المُغريات وربّما الضغوط.

لهذه الأسباب كلّها لا يُمكن الجزم بأنّ العماد عون سيُصبح رئيساً للجمهوريّة أم لا، وبأنّه يريد فعلاً هذا الموقع الذي لم يعُد “أكلة طيّبة” كما يُقال، بل حائط مبكى وأداة لتنفيذ مطالب الأقوياء في البلاد وتجاهل مطالبة الفقراء من الناس بمحاربة الفساد والفاسدين والمفسدين. علماً بأنّ المنطق يقول أنّ قادة الجيوش لا يُنتخبون رؤساء لدولهم إلّا في الدول الديموقراطيّة ولكن بعد تقاعدهم، لكفاءات عندهم غير القمع والاستبداد وإشباع شهوة السلطة. أمّا في دول العالم الثالث، ولبنان في آخر درجاته، فقادة الجيوش يستولون على السلطة بالقوّة بذريعة حاجة الأوطان إليهم ويفرضون الأمن وأحياناً كثيرة الاستبداد والقمع معه ويقوّضون وحدتها الوطنيّة ويقضون على معالم تقدّمها وازدهارها. ولا يُنتخبون أبداً.

لذلك، فإنّ السؤال الذي يطرح نفسه هو: لماذا لا يزال شعب لبنان أو بالأحرى لا تزال شعوبه تُطالب بالجيش في الملمّات الصعبة، علماً بأنّه لا يستطيع إنجازها؟ الجواب معروف لكنّ بعضاً من الحياء يفرض عدم الإفصاح عنه رغم معرفة الجميع له. أمّا الجواب عن ترئيس قائد الجيش جوزف عون أو عدم ترئيسه فلا يزال غير متوافر لكنّ رئاسته غير مستحيلة.

أخبار مرتبطة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى