قادة العالم فشلوا بمنع إفناء الغابات.
اجتمع قادة العالم قبل نحو عامين في “القمة الـ26 لتغير المناخ” Cop26، واحتفوا بالتزامهم الطموح بأن يعكسوا مسار عقود من إزالة الغابات، تمهيداً لاستعادتها بحلول عام 2030.
إلا أن نتائج جديدة تكشفت يوم الإثنين، أظهرت أن البشرية خرجت على نحو كبير عن مسارها في هذا الالتزام، مع تضاؤل مساحات الغابات في مختلف أنحاء العالم، بمعدل ينذر بالخطر.
وبحسب تقييم جديد صادر عن مجموعات بحثية ومنظمات المجتمع المدني، فقد زادت نسبة إزالة الغابات بنحو 4 في المئة العام الماضي، مقارنةً بعام 2021، ويتسبب هذا الفشل في تفاقم أزمة المناخ المتصاعدة، مع تدمير نحو 25 ألف ميل مربع (65 ألف كيلومتر مربع) من الغابات في عام 2022، أي ما يوازي ضعف مساحة بلجيكا.
وسُجلت نسبة مثيرة للذهول من خسارة الغابات بلغت 96 في المئة في المناطق الاستوائية في الأمازون والكونغو وجنوب شرقي آسيا، بحيث تختفي غابات بما يعادل حجم ملعب كرة قدم كل 5 ثوان.
ويأتي قطع الأشجار وإزالتها في المرتبة الثانية بعد حرق الوقود الأحفوري كمصدر لانبعاثات الكربون. وتصبح مواجهة أزمة المناخ – لسبب غير مفهوم – أكثر صعوبةً من دون وجود غابات.
وفي منطقة الأمازون، التي فقدت حتى الآن نحو 17 في المئة من الغطاء الشجري، ينبه علماء إلى أن الغابات المطيرة تقترب بسرعة من نقطة تحول حرجة، بحيث تشير تقديرات إلى نسبة إزالة غابات بنحو 20 إلى 25 في المئة. وإذا ما تم تجاوز هذه العتبة، فقد يؤدي ذلك إلى إطلاق مسار يُعرف بـ “الموت الرجعي” (انهيار النظام البيئي)، الذي يتضمن تدهوراً دائماً وواسع النطاق، ينتشر عبر المنطقة الأحيائية بأكملها.
يُضاف إلى ذلك أن تجاوز نقاط التحول الحرجة في الغابات الاستوائية – التي امتصت على مدى آلاف السنين كميات هائلة من الكربون – من شأنه أن يحولها من حليفة للإنسان في مواجهته لأزمة تغير المناخ، إلى أسلحة تطلق ملياراتِ الأطنان من الانبعاثات الحرارية.
وسيكون لهذا التحول تأثير مدمر بالنسبة إلى الجهود الرامية إلى الحد من ارتفاع درجات الحرارة العالمية، وإعادتها إلى 1.5 درجة مئوية، وتجنب عواقب لا رجعة فيها.
ويرى علماء أنه إلى جانب أزمة المناخ، تتسبب الأنشطة البشرية في انقراض جماعي غير مسبوق للكائنات الحية، بمعدل أعلى بألف إلى 10 آلاف مرة من المستويات الطبيعية. ويُعد إنقاذ الغابات، التي توفر موئلاً لنحو 80 في المئة من الأنواع الحيوية، أمراً بالغ الأهمية لمكافحة هذا التدهور.
علاوةً على ذلك، فإن ربع المكونات النشطة المستخدمة في أدوية مكافحة السرطان، مشتقة من مركبات موجودة في الغابات. ويقدر العلماء أن آلافاً من الأنواع الحية غير المكتشفة بعد، موجودة في منطقة الأمازون وحدها.
وتشبه العملية برمتها الدوران في حلقة مفرغة: فإزالة الغابات تتسبب بتفاقم أزمة المناخ، التي تؤدي بدورها إلى ارتفاع درجات الحرارة واندلاع حرائق الغابات والجفاف، ما يفضي إلى القضاء على الأشجار.
ومن المسلم به على نطاق واسع، أن حماية الغابات أمرٌ بالغ الأهمية بالنسبة إلى خفض الانبعاثات العالمية في هذا العقد الحاسم من الزمن. وفي هذا الإطار اعتبرت إيرين ماتسون منسقة “تقييم إعلان الغابات” Forest Declaration Assessment في مؤتمر صحافي، أن “الهدف الموضوع لعام 2030 ليس شيئاً يمكن التغاضي عنه أو التعامل معه على أنه اختياري، لكنه هدف أساسي لضمان توفير مناخ صالح للعيش بالنسبة إلى البشرية”.
أما أبرز الأسباب التي تقف خلف ظاهرة إزالة الغابات على نطاق واسع بحسب التقييم، فيتمثل في توجيه موارد مالية كبيرة إلى ممارسات ضارة مثل الزراعة المكثفة، وقطع الأشجار، وتربية الماشية، والتعدين. ويبلغ حجم الاستثمارات في هذه الصناعات الضارة 500 مليار دولار سنوياً، في حين يتم تخصيص مليارين و200 مليون دولار فقط للجهود السنوية لحماية الغابات.
لكن الجانب المشرق في الموضوع أنه ما زال هناك ما يكفي من الوقت لعكس هذا المسار، كما يرى كبار خبراء الغابات. فقد أطلق “الصندوق العالمي للطبيعة” World Wide Fund for Nature (WWF) – وهو أكبر مجموعة للحفاظ على البيئة في العالم – “مخططاً” يوم الإثنين الفائت، لإنقاذ الغابات، وذلك عشية انعقاد “قمة الأحواض الثلاثة” Three Basins Summit – (تشكل 80 في المئة من الغابات الاستوائية في العالم وثلثي التنوع البيولوجي وتضطلع بدور أساسي في تنظيم توازن الكربون. وهي: الأمازون والكونغو وبورنيو ميكونغ وجنوب شرقي آسيا) – في وقت لاحق من هذا الأسبوع في جمهورية الكونغو، و”القمة الـ 28 لتغير المناخ” COP28 التي تنعقد في دبي في ديسمبر (كانون الأول) المقبل.
ويؤكد تقرير “مسارات الغابات 2023” أنه إذا ما تقيدت الحكومات والشركات بالتزاماتها الراهنة، فلا تزال هناك فرصة لعكس اتجاه فقدان الغابات.
وتقول فران برايس رئيسة “قسم الغابات العالمية” في “الصندوق العالمي للطبيعة”: “نحن لسنا بحاجة لوضع أهداف جديدة لحماية الغابات، بل نحتاج لطموح لا يتزعزع، وسرعة في العمل، والمساءلة من أجل تحقيق الأهداف التي تم تحديدها سابقاً. لقد حان الوقت لتكثيف الجهود”.
تتضمن خطة العمل إنهاء الاستثمارات والإعانات التي تسهم في تدمير الغابات، وإلغاء السلع المرتبطة بإزالة الغابات من سلاسل التوريد العالمية، وإزاحة العقبات التي تحول دون اعتماد منتجات وممارسات “صديقة للغابات”.
ويرى “الصندوق العالمي للطبيعة” ضرورةً في زيادة نقل الحقوق والمسؤوليات والموارد المالية إلى الشعوب الأصلية والمجتمعات المحلية، خصوصاً أن الأبحاث أثبتت مراراً أن الغابات تتمتع بحماية أفضل في ظل رعاية تلك الشعوب والمجتمعات، بحيث يعيش نحو 60 مليون شخص من السكان الأصليين وسط الغابات في مختلف أنحاء العالم.
إن هدف 2030 ليس مسألة رائعة فحسب، بل هو ضروري للحفاظ على مناخ صالح للعيش بالنسبة إلى البشرية — إيرين ماتسون منسقة “تقييم إعلان الغابات”
وفيما أشار الباحثون إلى أن النتائج الحديثة لم تقدم سبباً كافياً يدعو إلى الاحتفال على المستوى العالمي، إلا أنهم حددوا بعض حالات النجاح على المستوى الوطني، التي من شأنها أن تمنح تفاؤلاً.
وتسلك أكثر من 50 دولة المسار الصحيح نحو القضاء على مسألة إزالة الغابات داخل حدودها بحلول عام 2030، في حين أن المناطق الاستوائية في آسيا ليست بعيدة عن هذا الهدف، ويعود الفضل في ذلك إلى حد كبير، إلى القوانين القوية، والتطبيق الصارم لها، والاعتراف بحقوق الشعوب الأصلية والمجتمعات المحلية، لدى كل من إندونيسيا وماليزيا.
أما في غابات الأمازون المطيرة، فبرزت تطورات مشجعة وسط المشهد القاتم. وفيما عانت منطقة الأمازون البرازيلية من خسائر فادحة في العقود الأخيرة من الزمن، إلا أنه كان هناك انخفاض ملحوظ في معدلات إزالة الغابات منذ تنصيب الرئيس لويس إيناسيو لولا دا سيلفا في وقت سابق من هذه السنة.
إيديغار أوليفييرا من “الصندوق العالمي للطبيعة – فرع البرازيل”، أشار إلى أنه خلال إدارة لولا، كان هناك تعزيز ملحوظ لقوانين الغابات واحترام جديد لحقوق السكان الأصليين. وأضاف أن “هذا التطور يبين ما يمكن أن يحدث عندما تلتزم البلدان التي لديها تشريعات قوية بالفعل تطبيقها”.
وفي كولومبيا المجاورة حيث تغطي الغابات المطيرة نحو نصف مساحة البلاد، كان مسار الحفاظ على البيئة محفوفاً بالأخطار وغير مؤكد، ما يشير إلى أنه لا يوجد نهج “واحد يناسب الجميع”، للحفاظ على الغابات، كما أوضح الباحثون.
ففي هذه البلاد، استمرت على مدى عقود من الزمن حرب العصابات وعمليات كارتيلات المخدرات وإرهابها في غاباتها. وشهد أكثر من 60 في المئة من بؤر التنوع البيولوجي في العالم صراعات مسلحة في الأعوام الأخيرة – ما يعني أن معالجة العنف تظل جزءاً لا يتجزأ من إنقاذ الغابات.
وفي عام 2016، وقعت الحكومة الكولومبية اتفاق سلام مع “القوات المسلحة الثورية الكولومبية” Revolutionary Armed Forces of Colombia (FARC)، وهي أكبر حركة تقوم بحرب عصابات في أميركا اللاتينية.
حركة “القوات المسلحة الثورية الكولومبية” لطالما كانت تسيطر على جزء كبير من تجارة الكوكايين الوفيرة في كولومبيا، وكان الجانب الحاسم من عملية السلام يهدف إلى وضع حد لها. وعلى رغم أن اتفاق السلام قد حقق بعض الاستقرار في كولومبيا، إلا أن تأثيراته في الغابات والمجتمعات الريفية كانت متفاوتة.
وفي مناطق معينة، أصبح هناك الآن مجال لازدهار مبادرات الحفاظ على البيئة. وتقول ماريسيلا سيلفا – وهي مزارعة سابقة أصبحت مراقبة للغابات في “الصندوق العالمي للطبيعة” في منطقة غوافياري التي أرغمتها “القوات المسلحة الثورية الكولومبية” على زرع نباتات الكوكا من أجل تجارة الكوكايين – إن “أهدافنا الرئيسية تتمحور حول حماية البيئة والأرض وحقوق المزارعين. أنشأنا برنامجاً ألهم الكثير من العائلات للانضمام إلى قضيتنا ومواصلة الالتزام بالحفاظ على محيطنا البيئي”.
وأكدت ماريسيلا سيلفا أن نجاح مشروع الحفاظ على البيئة يُعزى إلى حسن إدارة السكان المحليين وليس مجموعات خارجية. وأضافت: “ليست تلك هي الحال بالنسبة إلينا. فنحن من هذه المنطقة، والمزارعون يدركون أننا نصب جهودنا على تحسين البيئة والحفاظ عليها، ما من شأنه أن يمكن الأجيال المقبلة من الاستمرار في عملنا ومواصلة مسيرتنا”.
وعلى رغم توقيع اتفاق السلام، لا تزال الصراعات المسلحة وأعمال العنف تعصف بالمناطق الريفية في كولومبيا. ومع حل “القوات المسلحة الثورية الكولومبية” تزايدت حوادث الخطف والاغتصاب والدعارة. وقامت مجموعات حرب عصابات صغيرة ومهمشة وعشوائية، بتوسيع وجودها عبر مناطق الأمازون.
يُذكر أن كولومبيا لديها ثالث أكبر عدد من النازحين داخلياً على مستوى العالم، ولا تتجاوزها في ذلك سوى جمهورية الكونغو الديمقراطية وسوريا، كما أفاد “المجلس النرويجي للاجئين”Norwegian Refugee Council (منظمة إنسانية تدافع عن الأفراد المتأثرين بمشكلة النزوح).
إلى ذلك، واجهت غابات كولومبيا أيضاً الكثير من التعديات، في محاولة للاستيلاء على الأراضي لأغراض مثل تربية الماشية واستخراج الذهب على نحو غير قانوني، ولا سيما في المناطق التي اختفى فيها إنتاج الكوكايين، كما أوضحت فيرونيكا روبليدو من “الصندوق العالمي للطبيعة – فرع المملكة المتحدة”.
وقد أثبت النهج التعاوني المتبع الذي يشمل مجموعة من الأطراف المعنية من أجل حماية الغابات، نجاحه وفعاليته أكثر مما يمكن أن ينتج من الاعتماد فقط على البلدان، في الاضطلاع بهذه المسؤولية بمفردها.
ويبذل “تحالف الأمازون” Amazon Alliance العابر للحدود، مساعي حثيثةً للحد من أنشطة التنقيب عن الذهب، وما يرتبط به من تلوث ناجم عن الزئبق في منطقة الأمازون. وقد أقامت الحكومة البريطانية شراكات مع “الصندوق العالمي للطبيعة” في كولومبيا وأكبر شركة تجزئة في البلاد هي “غروبو إكسيتو” Grupo Exito بهدف تعزيز الممارسات المستدامة في تربية الماشية، وزيادة الشفافية داخل سلسلة التوريد.
وقالت السيدة ماتسون إن “المسألة هي أن الخسارة في أي مكان تبقى خسارة. إن ما نحتاج إليه هو أن تقوم جميع الدول والولايات القضائية والشركات بتعزيز سياساتها وأطرها القانونية المتعلقة بالغابات، لرفع مستوى المعايير في مختلف المجالات”.
وختمت بالقول: “ينبغي أن يكون وضع حد لإزالة الغابات وتدهورها، وإحداث تحول في النظام البيئي، مسؤوليةً مشتركة لإنقاذ الغابات في العالم”.