في عودة الاحتجاج إلى تونس

كتب المهدي مبروك, في صحيفة العربي الجديد:
لم يكن الأسبوع الماضي عادياً في تونس، عرفت البلاد جملةً من الأحداث المتسارعة قد لا نجد لها رابطاً موضوعياً موحّداً، ولكنها قد تكون مؤشّراً إلى ما وصلت إليه البلاد من احتقان اجتماعي وسياسي، فقد شهدت قرية المزونة (في الوسط الغربي والتابعة إداريا لمحافظة سيدي بوزيد) احتجاجاتٍ شعبيةً عارمةً إثر سقوط جدار مدرسة ثانوية على تلاميذ ما أدّى إلى وفاة أربعة منهم، علاوة على بعض الجرحى. هذه القرية الفقيرة التي تناستها الدولة منذ الاستقلال، ولم تلتفت إليها مختلف الحكومات، حتى بعد الثورة، تؤكّد مرّة أخرى أن محافظة سيدي بوزيد، التي انطلقت منها شرارة الثورة التونسية أواخر سنة 2010، لم تشهد أيَّ انتعاش اقتصادي، بل تبدو حالتها قد ساءت أكثر. انتظر عموم الناس من الرئيس قيس سعيّد أثناء انتخابه سنة 2019، أو حتى في أثر انقلابه على دستور الثورة سنة 2021، أن يلتفت إليهم، ويحسّن الخدمات الاقتصادية والاجتماعية، غير أن شيئاً من ذلك لم يتحقّق. لقد زادت المؤشّرات الاقتصادية والاجتماعية سوءاً، واستفحلت البطالة، وكذا غلاء الأسعار، ولم تشهد البلاد (حتى في أحلك فتراتها) الفلتان الأمني بعد الثورة، وفقدان المواد الغذائية عدّة أشهر.
سقط الجدار، ومات هؤلاء الشباب ضحيةَ غياب الحدّ الأدنى من تعهد البنية التحتية لمدارس غدت لا تليق بالبشر، وضحية فقدان حدٍّ أدنى من تعهّد المؤسّسات، فالجدران متشقّقة والنوافذ مهشّمة، كما يُفتقد الماء الصالح للشرب… إلخ. ثمّة بون شاسع بين مدارس المدن الكبرى في الأحياء الراقية ومدارس القرى والمدن الداخلية. فحتى مدراس المدن لا تليق ببلد كان، ولا يزال، رأسماله البشري النُخب المتعلّمة. تغيب في جلّ هذه المدارس الحواسيب والمخابر… إلخ، ولا زالت تدار ببدائية.
يقول الأهالي إنهم نبّهوا من خلال صفحات “فيسبوك”، وعبر المراسلات، إلى الوضع الكارثي الذي كان عليه الجدار، وإنهم حرصوا على تفادي كارثة كانت محدقةً، وإن مدير المدرسة راسل السلطات التربوية الجهوية أكثر من مرّة، ولكن هذه المساعي كلّها لم تفض إلى أيّ نتيجة ملموسة، حتى حلّت المصيبة. ولقد منع بُعدُ القرية من العمران المجاور وصول سيّارات الإسعاف والنجدة، التي كانت هي الأخرى متهالكة. انتفض الأهالي، وتواصلت احتجاجات شعبية ثلاثة أيّام (أو أكثر)، ودارت اشتباكات مع قوات الأمن التي حاولت منعهم من مواصلة تحرّكاتهم، رغم أنها كانت سِلميةً، غير أن توقيف مدير المدرسة الثانوية، وعدم تواصل السلطة العمومية المركزية مع الأهالي، زادا من غضبهم، وقد اعتبروا ذلك احتقاراً، وعدم مبالاة تجاه ما حلّ بهم. لملمت القرية جراحها على وقع الاحتجاجات التي انضمّ إليها طيفٌ واسعٌ من نُخب القرية والنقابيّين.
تراجعت شعبية قيس سعيّد، وانحسرت دارة مناصريه في مناخ من الإخفاق السياسي والاقتصادي، واتسعت دائرة المتبرّمين والغاضبين من أداء النظام
وقد عمدت قوات الأمن إلى تطويق القرية، وجرت مشادّات ليلية، حتى اضطرت إلى الانسحاب لتهدئة الخواطر، وحلّت محلّها أعداد صغيرة من قوات الجيش، تلاها إطلاق سراح المدير. تقول عدة أمثال شعبية ما مفاده بأن المصائب لا تأتي منفردةً، ففي حين كانت القرية تدفن موتاها، وقعت أحداث مرور راح ضحيتها تلاميذُ عدّة في مدن أخرى، علاوة على حوادث قتل في جرائم بشعة، ما يؤكّد أن تونس تحتاج علاجاً نفسياً جماعياً لا توليه الدولة اهتماماً، وهي ترى جلّ ما يحدث نتيجةَ مؤامرات، فقد علّق الرئيس، قيس سعيّد على عدة انتحارات شهدتها البلاد أخيراً بأنها ناجمة من مؤامرة على البلاد. اهتراء البنية التحية، وتقادم أسطول النقل المدرسي، كانا عاملين محدّدين لارتفاع عدد ضحايا حوادث المرور، والبلاد تحتلّ (للأسف!) المرتبة الأولى عالمياً في نسب حوادث السير. فقد بلغ عدد الضحايا ما يناهز 1200 ضحية خلال السنة الماضية (2024).
خفتت الاحتجاجات، وتراجعت بشكل كبير، ولم يبق إلا غبار معاركها المتواصلة في شبكات التواصل الاجتماعي، خصوصاً أن أنصار النظام رأوا في هذه الاحتجاجات توظيفات مقصودة لخصوم الرئيس سعيّد. ومع ذلك، ستظلّ آثارها النفسية العميقة مخزّنة في ذاكرة القرية. علمتنا أحداث الحوض المنجمي في قرية رديف (محافظة قفصة بالجنوب الغربي)، وهي التي أطلقت قادح انتفاضة، أن المجتمعات لا تنتج احتجاجاتها وفق منوال واحد، فثمّة احتجاجات تشتغل كالزلزال العنيف، مرّة واحدة يغدو فيها سافلها عاليها. وثمّة احتجاجات تشتغل وفق الزلازل الخفيفة التي تتكرّر فيها الأصداء، وتُحدِث شقوقاً وشروخاً عميقة. واحتجاجات قرية المزونة لن تكون حدثاً عابراً، وهي التي تلاها مباشرة صدور أحكام جائرة طاولت ما يناهز 40 شخصاً جلّهم من النخبتَين السياسية والإعلامية.
ثمّة توجّهان ثقيلان في تونس حالياً. الأول، تراجع شعبية قيس سعيّد وانحسار دارة مناصريه في مناخ من الإخفاق السياسي والاقتصادي الذريع. والاتجاه الموازي الثاني اتساع دائرة المتبرّمين والغاضبين من أداء النظام، وسوء إدارته البلاد، وهؤلاء الغاضبون لا يمثّلون النخبة السياسية فحسب، بل طيفاً واسعاً من الفئات الشعبية التي لم تستفد شيئاً خلال السنوات الستّ المنقضية من حكم الرئيس سعيّد.
للاحتجاج ذاكرة حصيفة، وهو تمرين مواطنة جيّد لكسر الخوف واختراق جدار الممنوعات، وقد تعدّدت في البلاد. سقط الجدار، وهناك جدران عديدة تصدّعت، وهي آيلة للسقوط حتماً.