رأي

في طبيعة الحرب على غزّة وخطابها

كتب المهدي مبروك في صحيفة العربي الجديد

يقف المتابع لتصريحات السياسيين الغربيين ومثقفيهم على حجم الخلاف الجاري بين مختلف تلك الدوائر التي عادة ما تكون على صلةٍ بصنّاع القرار في تلك العواصم. لقد ذهب وزير الخارجية الفرنسي السابق، دومينيك دوفيلبان، في أثناء حوار أجراه معه برنامج فرنسي ذائع الصيت، إلى أن الحرب التي تشنها إسرائيل على غزّة توشك أن تدخلنا إلى صدام حضارات يضع المسلمين وجهاً لوجه أمام الغرب وحليفته إسرائيل. ولهذا الرجل مواقف شجاعة، فقد غرّد خارج السرب في أكثر من محطة. ما زال عديدون يذكرون له موقفه الشهير يوم 14 فبراير/ شباط 2003 في مجلس الأمن، حين عارضت بلاده الحرب على العراق، واستبسل في مبارزة حادّة مع نظيره الأميركي، في حينه، كولن باول، للدّفاع عن وجهة نظر بلاده، ثم ذهبت الولايات المتحدة في حربها خارج أي شرعية دولية كانت تحرص عليها. وهو لا يكترث لحسابات الربح والخسارة التي يعتمدها بعضهم حفاظاً على المنصب، بل ينتصر، عادة، لقناعاته الشخصية. وهذه تصريحاته أخيراً تثير ردود أفعال عديدة في الأوساط السياسية والفكرية الفرنسية وغيرها، وما زالت تثير جدلاً حاداً، فقد عبّر رئيس الحكومة الفرنسية السابق، ليونال جوسبان (1997-2002) عن اختلافه معها، وقال إن الصراع الدائر هو بين مخيّمي أقصى اليمين المتطرّف، ديني إسلامي وديني يهودي. ومع ذلك، رأى أنّ الحرب مركّبة، ولا يمكن أن يحدّدها عامل وحيد، فالأبعاد معقّدة. مع ذلك، ظلّ يلحّ على استبعاد فكرة أن تكون الحرب الجارية حالياً حضارية، أي تُخفي متناً دينياً.

زار جوسبان مرّة إسرائيل والأراضي الفلسطينية المحتلة على إثر الانتفاضة الثانية (انتفاضة الأقصى)، واستقبله طلاب فلسطينيون في جامعة بيرزيت بالحجارة والطين، مستنكرين تعاطفه الآثم مع الكيان الإسرائيلي، وإنكاره في زيارته تلك (فبراير/ شباط 2000) معاناة الشعب الفلسطيني وحقوقه الثابتة. وهو يدرك، في أقواله أخيراً، أنه يتجنّب الإشارة إلى أي محتوى ديني حضاري للصراع، رغم أنه كان يستمع إلى تصريحات رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو، حين وصف الحرب الدائرة بأنها بين أبناء النور وأبناء الظلام، وهي مفردات استلها من إحدى نبوءات يوشع، كما ذكر هو بنفسه. وبقطع النظر عن تفاصيل المواقف التي تصدُر تباعا عن قادة ومفكرين غربيين، فإن  أنصار إسرائيل يعيدون ترتيب العلاقة بين المتن اليهودي المسيحي، وقدرته على تعبئة الأنصار في هذه الحرب من جهة وشرعية المعركة ضد “الإرهاب” وضرورتها من جهة ثانية.

يحرص قادة الكيان الصهيوني على تصوير الحرب على غزّة حرباً على الإرهاب. ولذلك تصرّ قنواتهم وآلتهم الدعائية على  نقل شواهد عديدة دالة حسب ادعائهم على جعل الحرب تُخاض ضد “إرهاب حماس”.

تعزف إسرائيل على هذا النحو على وتر حسّاس يستفزّ الضمير العالمي، ويجلب التعاطف والناس تستحضر كل ما اقترفته الجماعات الإرهابية خلال العقود الأخيرة، وهي تساوي مثلاً بين تنظيم داعش وحركة حماس. وتعاضد هذه الصورة التي صاغ لها الغرب مخيالاً سرعان ما يُصاب بالرعب والهلع لهول ما اقترفته هذه الجماعات، وذلك في التصنيف الذي عمد إليه الاتحاد الأوروبي منذ سنة 2005، حين أضاف “حماس” إلى قائمة التنظيمات الإرهابية.

غير أن السردية التي تحرص على إبراز إسرائيل ضحية اعتداءات جماعة إرهابية لم تتماسك كثيراً، وسرعان ما بدت فاقدة للمصداقية. وليست لها الحجج الأخلاقية الكافية، والحرب تقتل في الساعة الواحدة عشرات الأبرياء من المدنيين والأطفال والنساء والعجّز.خشية انزياح المعركة إلى معركة دينية بالأساس واردة جداً، في ظل الخطاب الذي يستعمله قادة العدو الصهيوني الذي يؤمن به بعضهم، ويستعمله آخرون من أجل استمالة اليمين المتطرّف الأكثر عنصرية ومناهضة للعرب. مع ذلك، المطلوب أن تكون هذه المعركة التي تُخاض معركة تحرّر وطني تلتقي فيه كل القوى المناهضة للاستعمار والاحتلال من أجل الحرية والتحرّر. ثمّة عراقيل عديدة حالت دون ذلك: حالة الانقسام  الفلسطيني، الشلل الذي أصاب النظام العربي الرسمي، الإسلاموفوييا التي تنامت بعد أعمال ارتكبتها جماعات إرهابية عديدة، ذلك كله شكل عوامل حالت دون أن تكون معركة غزة معركة أخيرة من أجل تصفية آخر قلعة من قلاع الاستعمار. مع ذلك، سيكون للمقاومة الشرسة التي أبدتها “حماس” منعطف تاريخي، لن تكون فيه غزة معزولة عن اهتمام العالم ويقظة ضميره مستقبلاً.

أخبار مرتبطة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى