في سقوط الحكومة الفرنسية
كتب عمر المرابط, في “العربي الجديد” :
بأغلبية 331 من أصل 575 مقعداً، وبعد حجب الثقة عنها، أُسقِطت الحكومة الفرنسية برئاسة ميشال بارنييه، بعد أقل من ثلاثة أشهر من تعيينها، وهو أمر لم يحدث في فرنسا منذ 1962، بعد رفض البرلمان الفرنسي آنذاك مقترحاً لحكومة جورج بومبيدو، يقضي بانتخاب الرئيس مباشرة من الشعب الفرنسي عوضاً عن انتخابه من النواب، ما اضطر الرئيس ديغول آنذاك، لحلّ الجمعية الوطنية والدعوة إلى انتخابات مبكّرة، استطاع فيها الحصول على أغلبية مريحة أعادت بومبيدو إلى رئاسة الحكومة سنوات عدّة. تختلف الأمور المرّة هذه، لا من ناحية أسباب السقوط ودواعيه، ولا من ناحية نتائجه وتأثيراته السالبة سياسياً واقتصادياً، داخلياً وخارجياً.
أسباب السقوط ودواعيه كثيرة ومتنوعة، فهي حكومة أقلّية اختير رئيسها من حزب متهاوٍ خاسرٍ فقد ثلّة من نوابه مع كلّ استحقاق انتخابي، فالحزب الجمهوري (ينتمي إليه رئيس الوزراء) لم يعد ذلك الحزب القوي الذي كان يكتسح الانتخابات وتبهرنا نتائجه، التي أصبحت مُجرَّد أحلام وذكريات، والأرقام واضحة وفاضحة، فقد فَقَدَ هذا الحزب العتيد، الذي حكم فرنسا عقوداً، أكثر من 300 مقعد في 20 سنة، ونزل عدد نوابه من 365 سنة 2002، إلى 320 سنة 2007، ليستمرّ مسلسل الانحدار والنزول إلى 62 مقعداً سنة 2022، قبل أن يحتلّ المركز الأخير بين الأحزاب الكُبرى والعريقة بـ47 مقعداً فقط سنة 2024. ومن ثمّ، لا ضير في القول إن لا شرعية له لقيادة السفينة، أمّا تبرير اختياره فهو رهان الرئيس إيمانويل ماكرون على تعيين شخصية تكون حلقةَ وصلٍ بين الكتلة الرئاسية المكوّنة من وسط اليمين واليمين المتطرّف.
اتفق على إسقاط بارنييه جمعان في طرفي نقيض. وهما عادة لا يتفاهمان، نقيضان يعادي كلّ منهما الآخر، ويعتبره خطراً على فرنسا، لكنّهما اجتمعا المرّة هذه لإطاحة الحكومة، وللتصويت ضدّ مشروع الميزانية المقترح. فمن جهة، عارض تحالف اليسار (الجبهة الشعبية الجديدة) المشروع باعتباره يمينياً يكرّس الفوارق الاجتماعية والطبقية داخل المجتمع الفرنسي، ويرفض فرض ضرائبَ جديدةٍ على الأغنياء وفاحشي الثراء، ثمّ على الشركات متعدّدة الجنسيات ذات الأرباح الفائقة. لكنّه في المقابل يستهدف الطبقات الفقيرة والمتوسّطة والمتقاعدين برفع الضريبة على الكهرباء، وعلى النقل الجوي، مع تقليص لائحة الأدوية المدعومة من الضمان الاجتماعي، والاستمرار في المِنَح الضريبية، التي قدّمتها حكومات ماكرون السابقة إلى الشركات والميسورين.
تريد لوبان تسجيل نفسها تلك المرأة التي استطاعت في تاريخ الجمهورية الخامسة إسقاط حكومة فرنسية بعد 60 سنة، وبعد أكثر من 50 محاولة فاشلة منذئذٍ
ومن جهة اليمين المتطرّف، كانت الأمور تسير على ما يرام، بما أن ماكرون أخذ بالاعتبار تهديديات زعيمته مارين لوبان وتفادى تعيين شخصيات لا تحظى بتزكيتها. وعلى هذا الأساس، لم يُسمِّ ماكرون سياسيين كانوا قاب قوسين أو أدنى من تعيينهم، بعدما أبدت زعيمة “التجمّع الوطني” رفضها لهم، لكن ماذا وقع حتى غيّرت لوبان وقلبت الطاولة على أصحابها؟ دفاعاً عن مصالح 11 مليونا من الناخبين الذين صوتوا لها، أم دفاعاً عن مصالحها الذاتية ومصالح حزبها الضيّقة؟
غازل بارنييه اليمين المتطرّف طوال مدّة بقائه في رأس الحكومة، ووصل إلى حدّ توبيخ أحد وزرائه علناً بسبب انتقاده اليمين المتطرّف، وضمّن برنامجه الحكومي عدّة مقترحات يمينية متشدّدة، وعيّن في رأس وزارة الداخلية شخصيةً معروفةً بمواقفها المتشدّدة، ووعد بإعادة النظر في قانون الهجرة الذي صودق عليه السنة الماضية، ليزيده حَجْراً وتضييقاً على المهاجرين، ومعلوم أن اليمين المتطرّف يُطالب باتخاذ إجراءات فورية في ثلاثة مجالات؛ الهجرة والأمن ثمّ القدرة الشرائية.
وجد بارنييه نفسه يلعب في محور ضيّق بين أنصاره من الكتلة الرئاسية وحزب الجمهوريين، من جهة، واليمين المتطرّف من جهة أخرى، مولياً ظهره بالكامل لقوى اليسار، التي حصلت على الصدارة في الانتخابات التشريعية الأخيرة، ظاناً منه أن مارين لوبان لن تجرؤ على ضمّ أصوات حزبها لأصوات اليسار لإسقاطه، خاصة بعد تلبية أغلب مطالبها، وآخرها الرجوع عن بعض الإجراءات التي كانت مقرّرةً في مشروع الميزانية، ومنها رفع الضريبة على الكهرباء أو التراجع عن تقليص تعويضات الأدوية، لكنّ مزايدات زعيمة اليمين المتطرّف لم تتوقّف، وطالبت بالمزيد، ممرّغةً أنف رئيس الوزراء في التراب.
تداعيات إسقاط الحكومة الفرنسية، ترافقها دعوات إلى استقالة الرئيس
بيد أن إسقاط الحكومة الفرنسية أُنضِج حقيقةً في محكمة باريس الجنائية، حيث تحاكم زعيمة اليمين المتطرّف مع مجموعة من أعضاء حزبها بتهمة اختلاس وتحويل أموال البرلمان الأوروبي لاستعمالها لصالح حزبها، إذ طالب المدّعي العام بعقوبة السجن مع منعها من حقوقها السياسية مدّة خمس سنوات، مع التنفيذ الفوري للقرار الذي ينتظر أن يصدر في مارس/ آذار المُقبل، ما يهدّد طموحاتها السياسية، ويقطع الطريق عليها للوصول إلى الرئاسة، بل إعدامها سياسياً، وهي بهذه الخطوة تريد إثبات وجودها داخل المشهد السياسي الفرنسي، وتسجيل نفسها تلك المرأة التي استطاعت في تاريخ الجمهورية الخامسة إسقاط حكومة فرنسية بعد 60 سنة، وبعد أكثر من 50 محاولة فاشلة منذئذٍ.
تداعيات إسقاط الحكومة الفرنسية، التي ترافقها دعوات إلى استقالة الرئيس، ردّ عليها ماكرون من السعودية، قائلاً إنها نوع من الخيال السياسي، تأتي في سياق سياسي واقتصادي صعب يتّسم بتراجع نفوذ فرنسا دولياً وإقليمياً، ظهر ذلك جليّاً في طريقة تعامل رئيس وزراء الاحتلال الإسرائيلي مع ماكرون، وإجباره على التراجع عن موقفه بشأن مذكّرة الاعتقال الصادرة عن المحكمة الجنائية الدولية، في مقابل إشراك فرنسا في اتفاق وقف إطلاق النار في لبنان، كما ظهر ذلك في موقف رئيس تشاد محمد ديبي، ابن فرنسا المدلّل الذي لم يكن ليرث حكم أبيه لولا عسكر فرنسا وقواتها، الذي قرّر إنهاء الاتفاق العسكري مع فرنسا. هذا على الصعيد الخارجي، أمّا على الصعيد الداخلي، فإن إسقاط الحكومة يعني تصاعد الأزمة السياسية وبدء مرحلة انسداد سياسي وحالات بلبلة وترقّب وتجاذب سياسي، قد تتحول أزمةً اقتصاديةً جرّاء عدم المصادقة على الموازنة العامّة، وتصاعد فوائد الديون، بسبب انعدام الثقة في الاقتصاد الفرنسي، وعدم إمكانية حلّ الجمعية الوطنية دستورياً إلا بعد مرور سنة، لكن تعميق الأزمة قد يكون الخطوة الأولى لبداية الحلّ.