رأي

في تونس ما يدعو اليوم إلى التفاؤل

كتب علي قاسم في صحيفة العرب:

أهم مكسب حصل عليه التونسيون هو التخلص من الأوهام فهم اليوم أكثر واقعية وأجواء الحرية التي يعيشونها مكنتهم من رؤية الواقع كما هو وليس كما حاول أن يقدمه لهم أسرى الأيديولوجيات.

هل هناك ما يدعو التونسيين إلى الاحتفال؟ وهل حال التونسيين اليوم أفضل مما كان عليه قبل 14 يناير 2011، اليوم الذي غادر فيه الرئيس زين العابدين بن علي تونس متوجها إلى السعودية مكان إقامته الأخير، حيث وافاه الأجل؟

رغم الظروف الاقتصادية الصعبة التي يعيشها التونسيون، إلا أن مئات منهم وجدوا أن هناك ما يدعو إلى الاحتفال بالذكرى الـ13 للثورة التونسية، فهي منحتهم على الأقل فرصة لاختبار الديمقراطية وحرية الرأي. وهم في ذلك على حق.

التونسي اليوم بمقدوره أن ينتقد المسؤولين في بلده، من أصغر موظف وعامل وصولا إلى أعلى شخص في هرم السلطة، للتأكد من ذلك ما علينا سوى أن نلقي نظرة على الصحافة التونسية وعلى قنوات التلفزيون ومواقع التواصل الاجتماعي.

نعم، هناك ضوابط، ولكنها ضوابط معمول بها في كل الديمقراطيات، حرصا على الديمقراطية نفسها، من بين هذه الضوابط فرض عقوبات على التشهير ونشر المعلومات الكاذبة، ومن بينها أيضا التشجيع على العنف والعنصرية والسلب بكافة أشكاله.

القانون في تونس يحمي الفرد من الإساءات الشخصية والثلب عبر مواقع التواصل وعبر وسائل الإعلام التقليدي، تماما مثلما يحمي رئيس الدولة.

في أكثر من مناسبة أكد الرئيس التونسي قيس سعيد أن القضاء مستقل عن سلطة الدولة في إصداره الأحكام وفي تنفيذها. وهذا بحد ذاته مكسب عظيم يستحق أن يحتفى به.

تأثيرات ما حدث في تونس امتدت لتطال دولا عربية أخرى، كانت شعوبها تأمل أن تتحول بلدانها إلى واحات للديمقراطية والحرية، رغم ذلك لم يجد حتى بضعة مئات بينهم سببا للاحتفال بالربيع الذي انقلب إلى شتاء.

أهم مكسب حصل عليه التونسيون هو التخلص من الأوهام، فهم اليوم أكثر واقعية مما كانوا عليه في أي مرحلة مضت. أجواء الحرية التي يعيشون في ظلها مكنتهم من رؤية الواقع كما هو، وليس كما يحاول أن يقدمه لهم أسرى الأيديولوجيات.

هناك من يقول اليوم إن تونس قبل 14 يناير 2011 كانت أفضل من تونس بعد هذا التاريخ. قد يكون هذا على المستوى الاقتصادي صحيح. ويشير هؤلاء إلى ما يصفونه بسلبية التونسيين وعدم خروجهم إلى الشارع للاحتجاج.

التونسي الذي خرج إلى الشارع، خرج محتجا على الفساد قبل أن يحتج على أي شيء آخر، وهو اليوم على يقين من أن البلاد في أياد نظيفة وأمينة، ما لم يثبت العكس. ويعلم أن ما تواجهه تونس، في جزء منه، هو ارتداد لمجموعة من الأزمات التي واجهها العالم، وأن الحكومة، برئاسة قيس سعيد، لم تأل جهدا في العمل للتوصل إلى حلول تخرج فيها البلاد من أزمتها.

نؤكد ثانية أن ما تواجهه تونس في جزء منه، وليس كله، كان بسبب أزمات عالمية. تونس بعد الثورة وقعت أيضا ضحية لأبنائها. كان العالم حينها لا يزال يعاني من ارتدادات أكبر أزمة اقتصادية شهدها منذ أزمة الكساد الكبير (عام 1929). حدث ذلك عام 2008 بسبب انهيار سوق الرهن العقاري في الولايات المتحدة، ومنها انتشرت الأزمة إلى أوروبا وآسيا والشرق الأوسط، حيث شهد العالم انخفاضا حادا في أسعار العقارات والأسهم رافقه تراجع في النمو الاقتصادي وزيادة في نسب البطالة والفقر والديون.

كانت تونس قادرة على تجنب الانهيار المالي والاقتصادي بفضل سياساتها النقدية والمالية الحذرة والمتوازنة، وفي قدرتها على تنويع مصادر النمو والتصدير.

في نهاية عام 2010 وبداية 2011 شهدت تونس ثورتها، وكانت في ذلك الوقت تعاني من تداعيات الأزمة العالمية على مستوى القطاع السياحي والاستثمارات وتحويلات المغتربين بشكل خاص.

كان من الممكن أن يقال إن الرئيس بن علي قد نجا من تحمل مسؤولية الأزمة الاقتصادية، وإن من حلّ محله في الحكم تحمل المسؤولية ظلما. ولكن سوء الإدارة وبرامج التعيينات في الوظائف الحكومية في السنوات التي تلت الثورة يقولان شيئا آخر.

بدلا من العمل على إصلاح المؤسسات الحكومية العامة، جرى انتداب أعداد هائلة من العاملين الجدد، لتتعمق بذلك مشاكلها، وتتحول إلى عبء إضافي على الاقتصاد.

منذ عام 2011، شهدت تونس عدة عوامل أثرت سلبا على النمو الاقتصادي والاستقرار الاجتماعي، حيث شهدت البلاد فترة اضطراب سياسي وعدم استقرار، مما أثر على الثقة في السياسة والاقتصاد. ولم تسلم من تدهور الوضع الأمني حيث سجلت بعض الحوادث الأمنية والاضطرابات التي أثرت على السياحة والاستثمارات.

ورافق كل ذلك زيادة كبيرة في حجم الديون العامة، مما أثر على قدرة الحكومة على سداد القروض وتمويل البرامج الاقتصادية والاجتماعية.

ولا غرابة بعد ذلك أن يطلق التونسيون على السنوات التي تلت الثورة لقب “السنوات العجاف”.

لم تكن ارتدادات أزمة 2008 ولا السنوات التي تلتها آخر ما عانته تونس. في مارس 2020 سجلت أول حالة كورونا في البلاد وكان الضحية رجل تونسي من مدينة قفصة عاد لتوه من إيطاليا.

دفعت تونس خلال وباء كورونا، كما دفعت دول العالم، ثمنا باهظا ليس فقط بأعداد الضحايا، ولكن في الاقتصاد الذي تكبد خسائر فادحة. تزامن ذلك مع سنوات من الجفاف ما زالت مستمرة أثرت إلى حد كبير على مخزون البلاد من المياه وعلى الزراعة. ولن ننسى الحرب الروسية – الأوكرانية وأثرها على أسعار المحروقات والغذاء.

وكأن هذا لا يكفي، تزامن كل هذا مع التطورات التي فاجأت العالم على صعيد التكنولوجيا، والذكاء الاصطناعي، لتتعمق الفجوة بين الدول، وأصبح ينظر إلى الذكاء الاصطناعي مصدر خطر يهدد فرص العمل.

رغم ذلك، التونسيون الذين احتجوا على رفع سعر الخبز عام 1984، لم يحركوا ساكنا للاحتجاج على ارتفاع عام في الأسعار، لم تسلم منه سلعة واحدة، وعلى اختفاء بعض السلع من رفوف المخازن الكبرى أو نقصانها. وهو ما رأت فيه أحزاب معارضة دلالة على أن التونسيين انفضوا عن السياسة والسياسيين. ويستشهدون على ذلك بنسب المشاركة المنخفضة في الانتخابات. لم ينفض التونسيون عن السياسة والسياسيين، والدليل أي سائق تاكسي تستقل السيارة إلى جانبه، وأي مقهى أو صالون حلاقة ترتاده. التونسيون أدركوا أن ما تعانيه تونس هو جزء مما تعانيه دول العالم، وأن ما تحتاجه البلاد هو إدارة حكيمة وحكومة تكافح الفساد وتضع الشخص المناسب في المكان المناسب. وهذا ما حصل.

كوفئ التونسيون خلال فترة عشر سنوات مرتين، في المرة الأولى كوفئوا على ثورتهم بالانضمام إلى نادي الديمقراطيات، وفي المرة الثانية ما زال التونسيون ينتظرون مكافأة على تطهير البلاد من الفساد.

في تونس ما يدعو اليوم إلى التفاؤل.

أخبار مرتبطة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى