في تأبين مسيرة بوريس جونسون السياسية
جاء في مقال توم بيك في “الاندبندنت عربية “:
في سبتمبر (أيلول) 2019، أسدى جونسون رئيس الوزراء البريطاني الجديد، نصيحة إلى فصل فيه تلاميذ في الثامنة من عمرهم، يحثهم فيها على عدم الإكثار في الشرب [الكحول] في الجامعة.
وهذا مسجل في شريط فيديو. يضحك اثنان من الأطفال. ويكتفي آخر بإمعان النظر برئيس الوزراء بسبب عدم معرفته ما هي الجامعة حقاً، أو، ربما، ما يعنيه بكلمة “شرب”.
بيد أنه كان يعني ما قاله. وعلى رغم كونه قد بلغ من العمر 55 سنة، وبعد أن وجد الوقت الكافي أخيراً وبشكل متأخر للمطالبة بما اعتبره حقه الطبيعي بحكم المولد، أي مفاتيح 10 داونينغ ستريت كان ولا يزال يشعر بالقلق بسبب معرفته بأنه لم يكن قد عمل بجد بما فيه الكفاية، قبل أكثر من 30 عاماً. والإدراك بأنه كان من السهل جداً إغراؤه بتلك الملذات غير المباشرة، وأنه على رغم وصوله إلى أكسفورد لدراسة الكلاسيكيات في منحة دراسية كاملة، فهو تخرج ضمن ثاني أفضل فئة من الطلاب بدلاً من مرتبة الشرف من الدرجة الأولى التي افترض أنها من حقه.
كان يفترض بجونسون أن يتمتع بأفضلية على أبطال المسرحيات التي كان يقرأها بشكل سريع في ذلك الوقت. إنه ميزة نادرة ممتازة أن تكون مدركاً تماماً للعيب القاتل الذي تعانيه، لكن ثبت أن ذلك الإدراك لا فائدة منه على الإطلاق بالنسبة إليه. لقد أجاد أكثر، في النهاية، في إسقاط عيوبه على أطفال المدارس الابتدائية الذين لم يفهموها حقاً، ثم أعطاهم دفعة لتشجيعهم بقوة، بدلاً من مواجهته عيوبه بنفسه.
هل كان يقول لنفسه، طوال حياته بعد أن بلغ الرشد، إن الأمور يجب أن تتغير؟ وإن عليه أن يعمل بجدية أكبر؟ وينبغي به أن يكون بوسعه أن يتقن التفاصيل كلها؟ وإنه لن يكون قادراً على شق طريقه عبر كل شيء فقط بإقناع الآخرين عن طريق التحايل وبالتبجح الصاخب؟
يكاد يكون من المثير للشفقة أن يتخيل المرء كم كانت هذه الأصوات التي كانت تصرخ في رأسه مرتفعة لم تكن في أي وقت من الأوقات أفضل من الكوابيس التي تدور موضوعاتها حول الامتحانات. كان على الكرسي. أخذت عقارب الساعة تدق. كانت هنا الأسئلة. ولم يعرف الإجابات.
بالكاد كان من الممكن أن تكون هناك نهاية ملائمة بشكل أكبر لمسيرة سياسية لم يسبق لها مثيل من المؤكد تقريباً، وقد لا تتكرر على الإطلاق.
عندما سئل عن سبب تركه للصحافة من أجل السياسة، كان من المفترض بجونسون أن يقول “إنهم لا ينصبون تماثيل للصحافيين”.
لقد تكرر [الجواب] مرات عدة. لا يبدو أن أحداً متأكد تماماً ما إذا كان صحيحاً، الأمر الذي يجعله مجرد عبارة رثاء ملائمة بشكل أكبر لمهنة سياسية انتهت، بكل معاني النهاية الجدية، قبل ستة أشهر. وهو وحده يمكنه أن يتخيل أن طرده من 10 داونينغ ستريت من قبل حزبه، من دون سبب آخر عدا عن التقدير الصحيح بأن أحداً لن يصدق على الإطلاق أي كلمة يقولها مرة أخرى، يمثل النهاية [لامتهانه السياسة].
لكن بلغنا النهاية بالتأكيد في يوم الأربعاء، حين أطلق آخر صرخاته أمام لجنة الامتيازات بينما كان أعضاؤها يقتلونه بلطافة.
وهكذا، مع اقتراب سيرة جونسون المهنية الطويلة في الحياة العامة (وإن لم تكن الخدمة العامة) من نهايتها، يتساءل المرء عن المكان الذي يمكن أن ينصب فيه التمثال. وماذا يمكن أن تقول الكلمات المكتوبة على القاعدة؟ ربما ستقول فقط “إنهم لا ينصبون تماثيل للصحافيين”، والتساؤل ما إذا كان قد قال ذلك بالفعل أم لا، سيكون مجرد جزء من المتعة.
ما الذكرى التي سيحتفي بها التمثال؟ من الذي قد يطلب صنعه؟ ومن قد يدفع كلفة الطلب؟ نادي مشجعي بوريس جونسون يتلاشى. ربما تتدبر نادين دوريس أمر إعداد بعض أنواع الأشكال التي تصنع بتشذيب وقص النباتات أو الشجيرات. فهي بستانية متحمسة على أي حال (وطبقاً لحساباتها على وسائل التواصل الاجتماعي، كانت تعيد زراعة حديقتها في عطلة نهاية الأسبوع قبل الماضي، وذلك قبل 48 ساعة من تشكل الصقيع بين عشية وضحاها. والذي كان متوقعاً بوضوح، ولكن ليس من السهل دائماً رؤية الأشياء إذا كنت لا تريد أن تصدقها).
من الصعب معرفة ما إذا كان من الممكن أن يكون هناك مسار مختلف لجونسون. لقد قضى عليه الوباء، لكن لم يكن كوفيد هو الذي أنهى حياته السياسية، بل شخصيته. الآن وبعد أن أصبح لديه مزيد من وقت الفراغ لإنهاء [كتاب] سيرة شكسبير، لن يضطر إلى التأمل بعناية بالغة في صفحات هاملت [في محاولة] للعثور على سطر أو سطرين حول الشخصية والقدر. فهذان السطران سيجلبان له قدراً كبيراً من الراحة بلا شك. وهو قد كتب سلفاً سيرة ونستون تشرشل وجعل كل شيء في الكتاب عنه هو، بوريس جونسون. والآن يمكنه أن يفعل الشيء نفسه مع شكسبير.
هناك بالطبع، شيء إلهي يحدد نهاياتنا، ويرسم معالمها على النحو الذي نبلغها فيه. كانت لندن وجونسون في عام 2012 [سنة الألعاب الأولمبية] محظوظين بوجود بعضهما بعضاً. في هذين الأسبوعين المظفرين، اللذين استغرق إعدادهما سبع سنوات، لم يكن لديه أي دور تنفيذي على الإطلاق بخلاف [كونه] كبير المشجعين. ولقد قام بذلك بشكل جيد إلى درجة لا تصدق.
بعد انتهاء الألعاب [الأولمبية]، كان بإمكان الدولة بصراحة أن ترى ما سيحدث، لا بل توجب عليها ذلك. قصة صفقة نادي وست هام لاستئجار الملعب الأولمبي معقدة، لكنها آسرة عند تأملها بعد مرور هذا الوقت. لم يكن هناك مستأجر مناسب عملياً، وكان الأمر مهدداً بالتحول إلى كارثة نوعاً ما. لذا، دخل جونسون على نحو صاخب، وعين نفسه شخصياً رئيساً لهيئة صنع القرار ذي العلاقة، ووضع حداً للفوضى ومضيعة الوقت، وأنفق 200 مليون جنيه استرليني (247 مليون دولار) من الأموال العامة لحل المشكلة وتحويل [المنشأة] إلى ملعب كرة قدم مناسب. وحضر لالتقاط الصور، حاملاً اللباس الخاص بنادي وست هام وقد كتب على القميص من الخلف “بوريس”، وكانت تلك نهاية الجدال حول المشكلة.
في ذلك الوقت، شعرت بالدهشة، كمراسل إخباري رياضي يغطي تلك القصة. كان من الواضح أن جونسون كان سياسياً مغايراً لأي سياسي قابلته بالفعل من قبل. لقد أسهم في تحقيق الأمر. لقد أنجز.
وبعد أربع سنوات، أصبح من الواضح جداً أن تلك الصفقة كانت مروعة. فهي كانت ستكلف دافعي الضرائب عشرات الملايين سنوياً وهو أكثر مما كان متوقعاً، وكانت عائدات الإيجار بخسة للغاية، ولم يكن الملعب مناسباً للغرض، وكان الأمر برمته كارثة.
إنها قصة طويلة تأملتها في ذهني مرات عدة في السنوات التي تلت ذلك الوقت.
وفي اليوم الذي أصبح فيه رئيساً للوزراء، وقف جونسون خارج 10 داونينغ ستريت، وبدلاً من التفوه ببعض الكلمات القيمة التي لا معنى لها، أعلن أن لديه “خطة للرعاية الاجتماعية، جاهزة”. بصحتكم. لا وقت للكلام فقط الأفعال. والمشكلة أنه لم يفعل. كان الأمر مفتعلاً بالكامل.
كانت لديه صفقة [بريكست] والتي كان سيتوجب إخراجها من الفرن وكشطها قبل رميها في سلة المهملات.
ذهب إلى إيرلندا الشمالية قبل الانتخابات في عام 2019. وقال في غرفة مليئة برجال الأعمال “أنا رئيس وزراء هذا البلد، وأنا أقول لكم إنه لن يكون هناك فحص للبضائع الآتية من البر الرئيس إلى إيرلندا الشمالية”.
لم يكن ما قاله لهم صحيحاً، بل مجرد ضوضاء. لقد كان، بطريقته الخاصة، ينجز “بريكست”. كان يقود آلة حفر عبر جدار من الفلين الأبيض، لكن كل ذلك كان عبارة عن حيلة.
كان يريد “رفع مستوى المعيشة” في البلاد. لقد أنشأ وزارة خاصة برفع مستوى المعيشة على رغم أنه لم يجد الوقت الكافي تماماً لشرح ما يعنيه المصطلح. كان هناك “40 مستشفى جديداً” لم تكن حقيقية. وكانت الأمور “لا مثيل لها في العالم” تارة أو “رائداً على مستوى العالم” تارة أخرى. لا شيء من ذلك حدث فعلاً.
سوف يعتقد بالتأكيد أنه كان سيئ الحظ بشكل رهيب. لقد كان في المكان غير المناسب في الوقت غير المناسب. والمكان المبهج بالنسبة إلى جونسون هو صفحات قسم التعليقات في صحيفة “ديلي تلغراف” حيث يكتب هراءً التحررية الزائفة من دون الظهور بمظهر المتجهم أمام الكاميرا [للإعلان عن قراره] إغلاق الحانات لمدة أربعة أشهر أخرى، لكن من الصعب التآمر لاختلاق نهاية أخرى.
لقد قيل عنه وكتب مرات عدة إلى درجة بات يتخيل معها نفسه فوق القواعد التي تقمع الأشخاص غير المهمين فقط. لقد كتب أستاذه القديم في مدرسة إيتون ذلك عنه، في رسالة وجهها إلى والديه، منذ نصف قرن تقريباً. بتعبير أدق، لا يبدو أنه يفهم القواعد كما هي بالتحديد. وهو بدلاً من ذلك، لا يرى سوى احتمال نشوب معركة إرادات بينه وبين من صنعها. وهو دائماً ما يدعم نفسه للفوز [في المعركة].
ليست هذه بالضرورة فلسفة سيئة للعيش على أساسها، لكن زواله الحتمي يجب أن يطمئن بقيتنا إلى أن الحقيقة تميل إلى الفوز، على رغم أن الأمر قد يستغرق بعض الوقت. لا يزال هناك طريق طويل أمامنا، لكن يبدو أننا نسير ببطء بعيداً من أرض الادعاء والتظاهر، ومن الحكم بالوهم، أخيراً وبعد انتظار طويل للغاية.
في الساعات الأخيرة من حياته السياسية، أصبح جونسون مضطرباً أكثر من أي وقت مضى، فيما كانت الحقائق البسيطة (والصور الفوتوغرافية في الواقع) لما قاله وفعله، تعرض أمام عينيه.
كتب جورج أورويل “إذا كانت الحرية تعني أي شيء على الإطلاق، فهي تعني الحق في إبلاغ الناس ما لا يرغبون بسماعه”. أعتقد لو أنه كان صحافياً. لربما قاموا ببناء تمثال له.
إن الآراء المذكورة في هذه المقالة لا تعبر بالضرورة عن “رأي سياسي” وإنما تعبر عن رأي صاحبها حصرا