في الظاهرة الترامبية وحُبّ ترامب.
كتب بشار نرش في صحيفة العربي الجديد.
قد تفضي محاولات التنبؤ بالمستقبل انطلاقاً من اللحظة الراهنة إلى نتائج غير دقيقة في أحيانٍ كثيرة، إلا أنّ استخدام التحليل المستند إلى بعض المقاربات التي تأخذ بالاعتبار أبعاد اللحظة الراهنة وفق سياقها الزماني وتطورات الأحداث اليومية، سيعطي إمكانية تلمّس المآلات المرتبطة بالمقدّمات وإمكانية التنبؤ بمسارات أي حدثٍ مستقبلي.
ما تدعو إلى هذه المقدّمة ظاهرة الترامبية التي يبدو أنها ستبقى مترسّخة في المجتمع الأميركي فترات طويلة، باعتبارها أصبحت تُمثّل تياراً فكرياً قوياً يعدّ امتداداً موضوعياً لتراكم طويل الأمد في السياسة الأميركية، وما يدفع إلى قول ذلك ما يشهده مسار الترشيحات الخاصة بالحزب الجمهوري، لاختيار المرشّح الرئاسي لخوض الانتخابات الرئاسية الـ60 في نوفمبر/ تشرين الثاني 2024، والذي يعطي دلالة واضحة على قوة هذا التيار، الذي لم يكن مجرّد تيارٍ عابرٍ أو ظرفي، انتهى بانتهاء رئاسة ترامب كما تحدّث بعض المحلّلين. تؤكّد ذلك استطلاعات الرأي التي تجري داخل الولايات المتحدة بشأن ترشيحات الأحزاب للانتخابات الرئاسية المقبلة، والتي تفيد بأنه كلما زاد الضغط على ترامب، ووجهت له مزيد من الاتهامات، زادت شعبيته في أوساط الجمهوريين، وتعزّزت ظاهرة الترامبية في المجتمع الأميركي.
من يقرأ نتائج استطلاع الرأي، الذي أجرته مؤسسة “فايف ثيرتي إيت 538” في نهاية الشهر الماضي (يوليو/ تموز)، عن تأييد الأميركيين مرشّحي الانتخابات الرئاسية، يدرك أنّ شعبية ترامب ترتفع مع كل لائحة اتهامات جديدة له، وهذا ما ظهر جلياً في الأرقام التي أشارت إلى تفوّق ترامب بفارق كبير، وصل إلى 37 نقطة عن أقرب منافس له في الحزب الجمهوري، وهو رون ديسانتيس حاكم ولاية فلوريدا، بحصول ترامب على 53% من أصوات المشاركين مقابل حصول ديسانتيس على 16% فقط من أصوات المشاركين، بعد أن كان هذا الفارق مجرّد نقطتين في استطلاعات رأي فبراير/ شباط الماضي. واللافت في هذا الاستطلاع أنه أظهر تفوّق ترامب في مختلف الفئات الديموغرافية للناخبين الجمهوريين، فتصدّر بهوامش واسعة بين الرجال والنساء، وكذلك بين الناخبين الأصغر والأكبر سناً، وبين المعتدلين والمحافظين، وبين أصحاب الشهادات الجامعية والذين لم يدخلوا الجامعات، وكذلك بين المدن والضواحي والمناطق الريفية.
لوائح الاتهامات الموجهة لترامب وحتى محاكمته لن تكون حائلاً لدخوله المعترك الانتخابي الرئاسي في شهر نوفمبر/ تشرين الثاني 2024
تشير هذه الأرقام بما لا يدع أي مجال للشك بأن القاعدة الجماهيرية لترامب في ازدياد، رغم توجيه ثلاث لوائح اتهام ضده في أربعة أشهر فقط، وعلى الرغم من أن هذه الاتهامات كفيلة بإبعاد دعم الملايين من الناخبين عن أي شخصٍ متهم، وكذلك إسقاط أي مرشّح تقليدي، إلا أن ترامب، على العكس، استطاع استغلال الأمر لصالحه، وتمكّن من أن يكون الخيار الأول لغالبية الناخبين الجمهوريين لنيل ترشيح الحزب الجمهوري لخوض الانتخابات الرئاسية المقبلة. ويرجع إلى مجموعة من الأسباب، أهمها أنّ هناك قاعدة جمهورية تراوح نسبتها ما بين 30% و35% من الناخبين سوف تظلّ موالية لترامب ومخلصةً له بشدّة، بغضّ النظر عن الاتهامات التي توجّه إليه. يُضاف إلى ذلك جاذبية رسائله الشعبوية التي ما زالت قادرة على جذب مزيد من الأنصار من الطبقات المتوسطة والشعبية المعادية للنخبة، والتي ترى في ترامب شخصية محرّكة للتغيير، وليست أسيرة لهذه النخبة الفاسدة.
يُضاف إلى ذلك كله أيضاَ أنّ هذه الاتهامات الموجّهة ضد ترامب تعتبر بالنسبة للناخب الأميركي جزءاً من النظام العام في الولايات المتحدة، وليست تهماً مستهجنة بالشكل الذي يقلّل من شعبية المتهم، فالناخب الأميركي كما هو معروف لا يميل إلى ممارسة عقوبة الإعدام السياسية، إذا كانت التهم تنطوي على شكلٍ من الفساد، فهناك اعتقاد واسع الانتشار أنّ جميع السياسيين يفعلون ذلك. يؤكّد ذلك استطلاع رأي أجرته شبكة سي بي إس نيوز الأميركية، كشف أنّ 61% من الناخبين الجمهوريين الذين شملهم الاستطلاع لم يغيّروا نظرتهم إلى ترامب بعد صدور لوائح الاتهام ضده، وأنّ 14% منهم قالوا إن لوائح الاتهام جعلتهم ينظرون إلى ترامب بشكل أكثر إيجابية، وأنّ 76% منهم اعتبروا أن لائحة الاتهام بشأن الوثائق السرّية كانت ذات دوافع سياسية، وهذه نقطة مهمة جداً، سيبني عليها ترامب الكثير في حملته الانتخابية، ليبقى يلعب دور الضحية وإظهار الاتهامات بأنها للانتقام الشخصي ولاضطهاده سياسياً، وبالتالي منع وصوله إلى البيت الأبيض.
مما سبق، يمكن القول إنّ لوائح الاتهامات الموجهة لترامب وحتى محاكمته لن تكون حائلاً لدخوله المعترك الانتخابي الرئاسي في شهر نوفمبر/ تشرين الثاني 2024. وبغض النظر عن كل التحدّيات التي قد تواجهه، سيبقى ترامب مخيّماً بظله الكبير على الحياة السياسية الأميركية، على الأقل حتى نوفمبر 2024، فكما يقول الصحافي والروائي الأميركي جيف غرينفيلد فإنّه بالنظر إلى تاريخ ترامب ذي الأرواح السبعة لن يكون مفاجئاً إذا رأى نفسه ينتقل من القسم على قول الحقيقة في قاعة المحكمة أمام القاضي وهيئة المحلفين، إلى القسم على تنفيذ الدستور عند تنصيبه أمام مبنى الكابيتول رئيساً جديداً للولايات المتحدة.