في الحرب وتطوّراتها.
كتب معين الطاهر في العربي الجديد.
ثمّة إجماع على أن الحرب الدائرة منذ أكثر من ثلاثة أسابيع ستشكّل نقطة تحوّل كبرى، تتجاوز قطاع غزّة لتمتد نيرانها إلى المنطقة بأسرها، وقد يمتد أثرها إلى ما هو أبعد. وصفها الرئيس الأميركي، جو بايدن، بأنها نقطة تحوّل، وأرسى البوارج وحاملات الطائرات الأميركية مقابل الساحل الفلسطيني، وعزّز القواعد الأميركية في سورية والعراق بمنظومات دفاعٍ جويٍّ وقوات المارينز. أما رئيس حكومة دولة الاحتلال، بنيامين نتنياهو، فقد هدّد بتغيير خريطة الإقليم، متجاوزًا هدفه المعلن بتصفية حركة حماس واحتلال غزّة. وقال الرئيس المصري، عبد الفتاح السيسي، إنها تهدف إلى تصفية القضية الفلسطينية، محذّرًا من خطورة تهجير الفلسطينيين. وحذّر وزير الخارجية الأردني، أيمن الصفدي، من أن تداعياتها على الأردن ستكون بمنزلة إعلان حرب عليه، وأجملت كتائب عز الدين القسّام ذلك كله بقولها إن ما بعد “طوفان الأقصى” ليس كما قبلها.
تحقّقت بعض هذه التحوّلات منذ اللحظات الأولى للحرب، وأخرى تبلورت مع تزايد المجازر الصهيونية وارتفاع وتيرة الحراك الشعبي المناهض للعدوان الصهيوني في الشارع العربي، وحملات التضامن الغربية المتصاعدة، على الرغم من الموقف الغربي المعادي، ومن الضغوط الأميركية والأوروبية على النظام العربي الرسمي، وثالثة ما زالت في طوْر التوقّع والتخطيط، وما زالت تطرح أسئلة أكثر مما تقدّمه من إجابات.
منذ اللحظات الأولى لطوفان الأقصى، بدا واضحًا للعيان أن جميع ما قيل عن تحسين حياة الفلسطينيين، والسلام الاقتصادي، والأمن مقابل السلام، والسلام المبني على اتفاقات التطبيع العربية والمنبثق من عواصمها، وخريطة الطريق ولجنتها الرباعية، والتنسيق الأمني، وقدرة إسرائيل على حماية المنطقة وردعها، قد تهاوى واندثر. وأصبح شائعًا القول إن هذه المعركة لم تولد من فراغ، وإنها جاءت تعبيرًا عن تجاهل النظام الدولي للنكبة المستمرّة منذ 75 عامًا، ولاحتلال الضفة الغربية وقطاع غزة منذ 55 عامًا، متجاهلين الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني، فإذا استكان الشعب الفلسطيني لوعودهم الوهمية تجاهلوه، وإذا انتفض وقاوم شيطنوه، وهو ما يكرّره بايدن حين يشيطن المقاومة الفلسطينية، ويبيع الوهم الكاذب بحديثه عن ضرورة إطلاق مسيرة سلام بعد الحرب.
كان الهدف الإسرائيلي المحدّد والمعلن تصفية حركة حماس، لكن سرعان ما تغيّر إلى تدمير قدراتها
ضرب المجتمع الصهيوني زلزالٌ مدمّر في عملية طوفان الأقصى، وستتوالى هزّاته الارتدادية خلال الحرب وبعد انتهائها، حين تُشكَّل لجانٌ للتحقيق في الهزيمة النكراء التي لحقت بالمؤسّسة العسكرية والسياسية والأمنية، وأدّت إلى خسارة إسرائيل قدرة الردع المتوهّمة التي كانت تدّعي امتلاكها. على الرغم من دخولنا الأسبوع الرابع للحرب، لا يزال الارتباك مهيمنًا على القرارات الإسرائيلية، الأمر الذي أدّى إلى تدخل الولايات المتحدة لتحديد أهداف الحرب وكيفيّات تحقيقها، بعدما شعرت بعدم تطابق الأهداف مع الوسائل، وبات واضحًا عجز الجيش الإسرائيلي وتردّده وخلافات قادته مع المستوى السياسي، ويندرج ذلك كله تحت بند الخوف من فشلٍ آخر، ومن تحمّل مسؤولية قرارات الحرب التي يتّفق الجميع على أنها ستكون حربًا طويلة وقاسية وصعبة.
كان الهدف الإسرائيلي المحدّد والمعلن تصفية حركة حماس، لكن سرعان ما تغيّر إلى تدمير قدراتها. وثمّة فارق كبير بين الهدفين؛ فالأول يعني محاولة إنهاء “حماس” وإقامة منظومة سياسية جديدة في قطاع غزّة بدلًا منها، وهو ما دعت إليه مراكز التفكير الصهيونية في واشنطن وتبنّته الحكومة الإسرائيلية. أما الثاني فيتضمّن حفظ ماء الوجه، إذا فشل في تحقيق الهدف الأول، فيدّعي نجاحه في تدمير قدرات “حماس” العسكرية أو تقليصها، وهو ناجم عن شعور القيادتين السياسية والعسكرية بصعوبة تحقيق الهدف الأول.
ضمن هذا السياق، حسم أمر الحرب البرّية. ويمكن القول إنها قد بدأت بعد ثلاثة أسابيع من القصف المدفعي والجوي والبحري غير المسبوق على قطاع غزّة، ضمن عملية تدمير ممنهجة. ما يدركه الجيش الإسرائيلي أن أيام الحرب الخاطفة قد ولّت، وأن حربا طويلة ومتدرّجه وصعبة وقاسية تنتظره، سيسعى خلالها إلى تدمير ما تبقى، وإلى احتلال الحزام الزراعي بين السياج الحدودي والمناطق المبنيّة، ومحاولة قضم بعض المناطق واحتلالها وفق أسلوب التقدّم والتراجع، وتطوير خطّة الهجوم في ضوء تطور معطيات المعركة ذاتها، والتخطيط لكل مرحلة، بل لكل يوم بناءً على نتائج اليوم الذي سبقه. وهذا مؤشّر واضح على طول المدى الزمني للمعركة، ودليل إضافي على فقدان قيادة الجيش الثقة بأداء قواتها، وخشيتها من تحمّل مسؤولية الفشل، واعتمادها على الحصار والتجويع والقصف البربري، وإيجاد ظروف غير إنسانية بديلًا من الحسم العسكري للمعركة.
أسئلة كبرى لم يُجب عنها بعد بشأن أهداف العملية العسكرية الإسرائيلية في غزّة ووسائلها، ولعلها مثار تساؤل الإدارة الأميركية وضباط البنتاغون
ثمة أسئلة كبرى لم يُجب عنها بعد بشأن أهداف العملية العسكرية الإسرائيلية ووسائلها، ولعلها مثار تساؤل الإدارة الأميركية وضباط البنتاغون وشكوكهم، منها: لماذا حدّد الجيش الإسرائيلي نطاق العملية العسكرية بشمال غزّة؟ وماذا عن الوسط والجنوب اللذيْن من دونهما ستغدو العملية بأسرها عاجزة عن تحقيق أهدافها؟ وما هي خططه لليوم التالي للحرب؟ وما مدى قدرته على إدامتها؟ مع ملاحظة تأثيرها المتصاعد على الجبهة الداخلية. وهي أسئلة توضح مدى الارتباك في الخطّة الإسرائيلية التي بدا واضحًا أنها لا تستطيع النظر إلى ما هو أبعد من أنفها.
تثير الجبهة الشمالية على الحدود مع لبنان وسورية أسئلة أخرى؛ فهل تستمرّ قواعد الاشتباك الحالية على تلك الجبهة، والتي تقضي بتبادل النيران في محيط المنطقة الحدودية على الجانبين، كما هو معمول به منذ بدأت الحرب من دون تجاوزه، مع حرص الجانبين، حتى اللحظة، على عدم تصعيد الموقف؟ لم يعد هذا الموقف، على أهميته من حيث مشاغلته، جزءًا من قوات الجيش الإسرائيلي، مقبولًا لدى قطاعات جماهيرية واسعة ترى حجم الهجمة الصهيونية غير المسبوقة على المقاومة وعلى قطاع غزّة الذي تجاوز عدد الشهداء والجرحى والمفقودين فيه حتى لحظة إعداد هذا المقال الثلاثين ألفًا، غالبيّتهم من النساء والأطفال. وأصبح من الجلي أن إشعال الجبهات الأخرى بشكل كامل سيكون له أثر فوري على سير المعركة، وسيمنع تصفية المقاومة في فلسطين، وسيترك بصماته على مستقبل الإقليم بأسره وخريطته. هذه هي اللحظة المؤاتية لدخول التاريخ أو الخروج منه، فالتاريخ لا يرحم.
زعم نتنياهو أن الكيان الصهيوني اليوم يخوض معركة الاستقلال الثانية، مع ما يعنيه هذا القول أن إسرائيل تواجه خطرًا وجوديًا يهدّد مستقبلها
زعم نتنياهو أن الكيان الصهيوني اليوم يخوض معركة الاستقلال الثانية، مع ما يعنيه هذا القول أن إسرائيل تواجه خطرًا وجوديًا يهدّد مستقبلها، وتحدّث عن تغيير خريطة الإقليم، وعن طول مدى المعركة وصعوبتها. لذا، يرجّح كاتب المقال أن حشد القوات الأميركية في المنطقة لا يهدف إلى منع اتّساع الحرب بقدر ما يسعى إلى تأخير تدخل حزب الله وحلفائه فيها، أو تحديد مدى هذا التدخّل وحجمه بما لا يؤثر في نتيجتها، إلى أن توجّه إسرائيل ضربة استباقية إلى حزب الله قد تمتد أو تبدأ بضرب الأهداف النووية الإيرانية، وتتدخّل القوات الأميركية لتطويق ردّة الفعل على هذا الاعتداء، وهو ما يحقّق هدف نتنياهو من الحرب، إذ إن تدمير قدرات حركة حماس وحدها لن يغسل العار الذي لحق به، وسيكون هدفه الآخر تدمير قدرات حزب الله، وفرض وقائع جديدة في لبنان وسورية، الأمر الذي يخدم الولايات المتحدة وإدارة بايدن في معركته الانتخابية، ويعيد لإسرائيل بعضًا مما فقدته في “طوفان الأقصى”.
المعركة طويلة وصعبة، لكنها ستنتهي بفشل العدو في تصفية المقاومة، وهذا في حد ذاته انتصار لها، وهذه مقدّمة ضرورية لنهاية آخر استعمار استيطاني كولونيالي ونظام أبارتهايد وفصل عنصري في العالم، من دون أن نُغفل المخاطر المحيطة، وندرك صعوبة المعركة وضراوتها واختلافها عما سبق من حروبٍ ومعارك.