كتب جمال ابراهيم في “العربي الجديد”: يعجب من يتابع الأحوال المأساوية التي تردّى إليها لبنان من لا مبالاة بلدان شقيقة وصديقة، كان تفاعلها لنجدة البلد في أزماته يجد التقدير المعتبر من المواطن اللبناني الذي لم ترحمه عاديات الاقتصاد، فاهتز المشهد السياسي تحت أقدام شعبه. كان للسعودية الجهد الأكبر في إيقاف الحرب الأهلية التي استمرّت 15 عاماً (1975 – 1990) في الطائف. لعبتْ دوراً رئيساً في جمع فرقاء لبنان، فنجحت دبلوماسية الحوار في إنهاء تلك الحرب، وعاد التوافق إلى المشهد اللبناني، فاستقام لبنان بعدها عملاقاً وقف على قدميه، وفق ترتيبات اتفاق الطائف. ولكن الإرهاق أصاب المشهد السياسي، إثر اغتيال رئيس الوزراء الأسبق، رفيق الحريري، في عام 2005، وهو صاحب الفضل الأكبر في استعادة العافية للبنان. هدأت الأوضاع سنوات قليلة، ولكن سرعان ما اضطرب المشهد السياسي، بعد انتهاء فترة رئاسة إميل لحّود، ودخلت الدولة اللبنانية في الفراغات والفجوات الدستورية، فلم تنعقد للبنان رئاسات مستقرّة للجمهورية وللبرلمان وللوزارة، إلا بعد وساطات عـديدة، لعبتْ فيها جامعة الدول العربية في الدوحة في عام 2008 دوراً رئيساً، وكانت وقتها تحت قيادة الدبلوماسي المعتق، عمرو موسى، مثلما كان لرئاسة القمة بيد السودان وقتذاك دور مساعد في ذلك. على إثر ذلك، نجح الإطفائي عمرو موسى في إقناع الأطراف اللبنانية بالتوافق على رئيسٍ للجمهورية، هو الجنرال ميشال سليمان، الذي خلع بزّته العسكرية وتولّى المهمة لسنواتها التي حدّدها اتفاق الدوحة عام 2008، ثم انزلق لبنان ثانية إلى الفراغ الدستوري.
لا تتناول هذه السطور تعقيدات المشهد اللبناني في السنوات الأخيرة، غير أن المشهد الآن وبرمته يحتاج وقفة جديدة، تتجاوز ترتيبات الطائف والدوحة، لكأن الأزمة اللبنانية نارٌ يخمد دخانها مؤقتاً، ثم لا يلبث أن يلتهب جمرها الخامد من جديد. لعل فينيق لبنان كُتب له أن يتردّى في رماده ثم يستفيق بين حين وآخر، كما في الأسطورة.
كانت لجامعة الدول العربية جهود جبارة قادها أمينها العام في حينه، عمرو موسى، وقد بادر السودان الذي آلت إليه رئاسة دورة ما بعد قمة ناجحة شارك فيها أغلب الملوك والأمراء والرؤساء بصورة مقبولة بدور مساعد لجهود الجامعة، بل كان دوراً إيجابياً حث الأطراف اللبنانية على تجاوز خلافاتها، فتتفق على الرئاسات الثلاث، ليتاح للبنان أن ينهض من رماد أزمته، ويتجه إلى البناء ولرتق فتوق مشهده السياسي.
ولكن، على الرغم من توافقات الطائف والدوحة، والتي حققت ما يشبه الهدنة المؤقتة، وإن استمرت بضع سنوات، ها نحن نشهد حريقَ فينيقٍ لبناني آخر، إثر انتهاء ولاية ميشال عون في رئاسة البلاد. من تردّي الأحوال السياسية بين الفينة والأخرى في لبنان، فإنّ حقيقة ماثلة تحضّ الزعامات والقيادات اللبنانية على الانتباه إليها، وتتّصل بجهود الإطفائيين، سواء من جامعة الدول العربية أو من كلٍّ من السعودية أو قطر. المعالجات التي جرت للأزمات اللبنانية، خلال العقود الستة الأخيرة، هي أشبه بحالة وقف إطلاق نار مؤقت في حرب ناشبة. قد تمتد تلك الهدنة الافتراضية عاماً أو عقداً أو عقدين، لكنها تظل فاقدة الاستدامة والثبات.
لن تستقيم الحال في لبنان، إلا بمخاطبة جذور الأزمة بشجاعة ومثابرة، تعيد التوافق بين الأطراف اللبنانية كافة، ولا تستثني أي طرفٍ يشغل حيزاً، كبيراً أم صغيراً، في المشهد اللبناني المشوّه، حتى يكون بناء الوجدان اللبناني الذي يُعلي الانتماء للوطن اللبناني، هو الهدف الأسمى. ولكن ذلك لن يتأتّى إلا بتجاوز الولاءات الطائفية والحزبية السياسية التي أقعدت لبنان زماناً طويلاً، وجعلته بلداً على صغره الجغرافي، مشدودة أطرافُه دوماً إلى أصابع خارجية، فكأن أقداره مقبلة على تقسيمٍ يفضي به إلى التشظّي والفناء. وحده الانتماء للوطن، قبل الانتماء للطائفة، هو ما يحفظ للبناني وجدانه. وقد هدف اتفاقا الطائف والدوحة، لاستشراف تلك الغاية الأسمى، ليكون اللبناني لبنانياً، قبل أن يكون مسيحياً أو مسلماً سنياً أو مسلماً شيعياً، أو حتى لا دينياً.
ولكن ينبغي أن يكون للاعبين في الإقليم دور إيجابي، فالتغاضي عن النيران اللبنانية لن يعفي الجيران من هبوب لهيبها، والا انقلب لبنان الذي كان كحامل المسك في الإقليم إلى نافخ كيرٍ تصيب نيرانُه ثياب جيرانه، ولربما أفضى الإنهاك الذي أصاب بعض اللاعبين المؤثرين إلى بطء تفاعلهم هذه المرّة بما يعين لبنان.
لعل على جامعة الدول العربية التي تنفّستْ خلال قمة الجزائر أخيراً، واستعادت شيئاً قليلاً من عافيتها، أن تنفض عن هياكلها غبار التجاهل وأردية اللامبالاة، وأن تبادر إلى دور فاعل يساعد لبنان، على النحو الذي قاد به عمرو موسى عام 2008، ذلك الحوار الذي حقق اختراقاً في المشهد اللبناني عام 2008، وجرى انتخاب الجنرال ميشال سليمان رئيساً للجمهورية بيسر بعد تلك المبادرة، غير أن علاجات التهدئة التي جرّبتْ عبر سنوات طويلة لن تكون ناجعة هذه المرّة. وحتى لا يُترك لبنان يتلاشى في أزماته أو تستفرد الأصابعُ الخارجية بمشهده السياسي بكامله، يظلّ الأمل في جامعة الدول العربية، لا سواها من المنظمات الدولية أو الإقليمية، أن تمد يدها، وألا تنتظر مناجاة الحادبين القدامى، بل أن تحمل عنصر المبادأة بيديها.
وإن سألنا كيف يتم ذلك، فإن على الأمانة العامة أن تتسلح بمقرّراتها ومواثيقها، فتقترح إنشاء لجنة للحكماء تكلف بالنظر في الأزمة الناشبة في المشهد السياسي اللبناني، بأعجل ما يؤمن حلاً ينهض عبره الفينيق، ومن دون إبطاءٍ يبقيه مشتعلاً في رماده.
ومن دون التقليل من قدرات الأمين العام لجامعة الدول العربية، أحمد أبوالغيط، فله أن يعطي مساحة لبعض الصفوة من حكماء الأمة، البعيدين عن تأثير الدول عليهم، والذين خبروا الأوضاع العربية عن قرب، وليس عليهم تأثير من أطراف رسمية عربية أو أجنبية، هم الأقدر على إعانة جامعة الدول العربية في جهدها إزاء ما قاد إلى اضطراب الأحوال السياسية في لبنان. وللجامعة أن تنظر في قوائم من كسبوا الحكمة والخبرة، مثل الدبلوماسي المطبوع المقتدر عمرو موسى، والدبلوماسي الجزائري والمفاوض الأممي البارز، الأخضر الإبراهيمي، والدبلوماسي المعتق مصطفى الفقي، فتكلفهم أمانة الجامعة بتولي الأزمة الناشبة في لبنان، وتوفر لهم المعينات اللازمة ولا تقيدهم بشروط ولا قيود. وتلك في تقديرنا سانحة لجامعة الدول العربية، تجدّد قدراتها وفعاليتها، فلا تكون في مقاعد المتفرّجين العجزة. للحكومات أدوار رسمية في التصدّي للأزمات، وفي التوصّل إلى الحلول، غير أنّ دبلوماسية المجتمع المدني المستقلة عن الحكومات، الثرية بالحكمة، قد تكون الأقدر على تجاوز بعض محن السياسات الرسمية التي تُبتلى بها الدول، وتمتحن بها الشعوب.