رأي

فلسفة التعديل الوزاري المصري وأحادية السلطة

كتب شريف هلالي, في “العربي الجديد”:

يكثر الحديث منذ أسابيع في مصر عن قرب الإعلان عن التشكيل الوزاري الجديد بعد استقالة حكومة مصطفى مدبولي ثم إعادة تكليفه. والرجل أكثر رؤساء الحكومات منذ ثورة 25 يناير، بقاء في منصبه، بعد تكليفه بتشكيل أول وزارة عام 2018، وهو سابع رئيس للحكومة منذ الثورة. والمثير أن كل من تولوا هذا المقعد منذ 2011 ينتمون إلى مهنة الهندسة بفروعها المختلفة، فيما كان سابقوهم يأتون من خلفية اقتصادية أو قانونية في أغلب الأحوال.

والأغرب هو إجراء التعديل وفق الفلسفة نفسها التي يسير عليها النظام برئاسة عبد الفتاح السيسي، فلا أحد يعرف لماذا كلّف مدبولي، رغم التقييم السلبي لأداء حكوماته، على المستويين، الشعبي والسياسي، وما أسباب خروج هذا الوزير أو ذاك أو اختياره بالتحديد، وما هي المعايير الموضوعة تقييم أداء الوزراء. وتثير هذه الطريقة عدة إشكالات، منها مدى المشاركة الحقيقية للوزارة في وضع السياسات بالتعاون مع رئيس الجمهورية، وطريقة اختيار الوزراء أنفسهم الذين يأتون غالبا من خلفيات تكنوقراطية. ونادرا ما حدث اختيار وزراء من خلفيات سياسية، باستثناءات محدودة في ظروف بعينها، وهو ما حدث عقب ثورة 25 يناير، وبعد إطاحة حكم جماعة الإخوان المسلمين في 2013، بضم بعض رموز جبهة الإنقاذ، مثل محمد البرادعي نائبا للرئيس، وزياد بهاء الدين نائبا لرئيس الوزراء، وانتهت تلك التجربة سريعا في 2015، فلم يُضمّ، بعدها، أي وزراء من خلفيات سياسية معارضة.

وقد نصّ دستور 2014 على طريقةٍ معيّنة لاختيار رئيس الوزراء ومن ثم التشكيل الوزاري، وفق المادتين، 146 و147. وربط تشكيل الحكومة بحصولها على ثقة أغلبية أعضاء مجلس النواب. وفي حالة عدم الحصول على هذه النسبة، يكلف رئيس الجمهورية رئيساً للوزراء بترشيح من الحزب أو “الائتلاف” الحائز أكثرية مقاعد مجلس النواب. وفي حالة فشل هذا الخيار، اعتبر البرلمان منحلّا بحكم القانون، وتجري الدعوة لانتخاب مجلس نواب جديد. والمفترض تكليف الحزب الذي يحظى بأغلبية مقاعد مجلس النواب في هذه الحالة، وهو “مستقبل وطن” الذي يحظى برعاية أجهزة الدولة، والذي يشبه وضع الحزب الوطني قبيل ثورة 25 يناير. وأعطى الدستور لرئيس الجمهورية حقّ إعفاء الحكومة من أداء عملها وإجراء تعديل وزاري بشرط موافقة أغلبية أعضاء مجلس النواب. ويعطي هذان النصّان الصلاحية لأغلبية البرلمان في التصويت على الشخص المكلف بالمنصب أو تكليف الحزب أو الائتلاف الحائز على أكثرية المقاعد بالقيام بهذا التشكيل. ولكن هذه الإجراءات تجري مراعاتها على المستوى الشكلي بسبب الطريقة التي جرى بها انتخاب المجلس منذ عام 2014، والذي جاء على أعين الحكومة وأجهزتها الأمنية والإدارية.

منذ 2014 لم يستقل أي وزير بإرادته الشخصية، ولا يخرُج إلا في التعديل الدوري، أو يُجبر على الاستقالة، أو يُحال إلى القضاء في اتهاماتٍ تتعلّق بالفساد

وفي الغالب، يكون الدور الأكبر لهذه الأجهزة في ترشيح الوزراء واختيارهم، والمتوقّع حصولهم على الموافقة الأتوماتيكية لما يسمّى تحالف دعم مصر الفائز بأغلبية مقاعد المجلس، لتصبح الموافقة على هذه القرارات مجرّد إجراء شكلي يتم تلقائياً.

وعلى الرغم من انتقاد كثيرين، حتى من الإعلاميين المقرّبين من النظام لتلك الوزارة والدعوة إلى إقالتها، بسبب سوء الأداء الاقتصادي والخدمي في ملفات التموين والنقل، والكهرباء، والصحة والتعليم، إلا أن هذه الحملات تثير علامات استفهام كثيرة بشأن إمكانية حدوث تغيير في التوجهين، الاقتصادي والسياسي، بمجرّد إجراء تعديل وزاري مهما بلغ حجمه، طالما استمرّت السياسات نفسها. ويعرف كثيرون أن محدودية دور الوزارة فعليا في وضع السياسات وتنفيذها، وهي لا تمثل سوى مجرّد سكرتارية الرئيس.

وأزمة اختيار الوزراء في مصر أنهم يُختارون ممن ليس لديهم خبرة سياسية أو حزبية، وغالبا ما يفضّل رئيس الجمهورية تعيين شخصياتٍ من المتمتعين بخلفية فنية وإدارية في تخصصاتهم، أو من المنتمين إلى ضباط الشرطة والجيش. وغالبية الوزراء لن تجد لهم خبرة سياسية من أي نوع، سواء في أثناء دراستهم الجامعية، أو بعدها، وغالباً لا تكون لهم اهتمامات حزبية، إلا حين انضمامهم للحزب الذي يحظى بدعم الدولة ورضاها، فالعضوية الحزبية هنا تمثل الباب الملكي لنيل المكاسب، مثلما كانت عضوية لجنة السياسات زمن حسني مبارك.

ونادراً ما تحدُث اختلافاتٌ في وجهات النظر بين الوزراء ومؤسسة الرئاسة، أو يقدّم أحد الوزراء استقالته اعتراضاً على توجّهات الرئاسة أو الوزارة، أو اعترافا بفشل، مثل ما رأينا في أواخر السبعينيات في استقالة وزيري الخارجية، إسماعيل فهمي احتجاجاً على زيارة الرئيس أنور السادات القدس المحتلة ومحمد إبراهيم كامل احتجاجا على معاهدة كامب ديفيد. ومنذ عام 2014 لم يستقل أي وزير بإرادته الشخصية، ولا يخرُج إلا في التعديل الدوري، أو يُجبر على الاستقالة، أو يُحال إلى القضاء في اتهامات تتعلق بالفساد.

ويمثل إصرار الرئاسة على اختيار مصطفى مدبولي مرّة أخرى علامات استفهام كثيرة، بالرغم من حجم الانتقادات الشعبية لأداء وزاراته، والغضب المتصاعد ضدّها بسبب تردّي الحالة الاقتصادية وارتفاع نسب التضخم. ويجب ألا نتجاهل الواقع السياسي الذي تعدّ فيه مؤسّسة الرئاسة الصانعة الوحيدة للقرار على كل من المستوى الاقتصادي والسياسي والاجتماعي، في مقابل تهميش دور أحزاب المعارضة المدنية، واكتفاء النظام بإجراء حوار شكلي خالٍ من المضمون. وفي الوقت نفسه، تتبنّى تلك السياسات التي تسير عليها وزارات ما بعد 2014 مفهوماً مناهضا للعدالة الاجتماعية، وتتخلى عن القاعدة التي حكمت أنظمة ما بعد ثورة 23 يوليو (1952)، بتوفير الحماية لأغلبية الفقراء والعمّال والفلاحين، لصالح سياسات أخرى تقوم على مفهوم الاقتراض وتعويم العملة وبيع الأصول وزيادة الأعباء على المواطنين. وما يحدُث في أروقة التشكيل الوزاري منذ تكليف مدبولي يمثل تجاهلاً لحقّ الأحزاب والرأي العام في النقاش السياسي وخلفيات هذا التشكيل وأسماء الوزراء المرشّحين، وتقييم كفاءتهم ومدى صلاحيتهم لهذه الأدوار، ليفاجأ الجميع بهؤلاء الوزراء في أثناء عرض أسمائهم على البرلمان لمنح الثقة.

في النهاية، يؤدّي الإبقاء على طريقة التشكيل الوزاري، وتغييب دور المؤسّسات الوسيطة في اختيار ومحاسبة الوزراء، واستمرار القيود على وسائل الإعلام والمجتمع المدني، وتخلّي مجلس النواب عن أدواته الرئيسية في الاستجواب وسحب الثقة من الوزارة في النهاية إلى تجميد أي تغيير حقيقي. وبالتالي، سيظلّ الأداء والتوجّهات السياسية والتوازنات القائمة، وانفراد مؤسّسة الرئاسة بصنع القرار في غياب كامل للرأي العام.

أخبار مرتبطة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى