فلسطين التي هزمتنا

كتب فاروق يوسف, في “العرب” :
الآن بعد أن انتهى زمن صدام حسين واعتراف الفلسطينيين بأنهم أخطأوا في أوسلو هل على العرب أن يقعوا في متاهة الخلاف الفلسطيني – الفلسطيني الذي كانت من نتائجه حروب غزة السبعة؟
كانت هناك نكبة حدثت عام 1948 وكانت هناك نكسة وقعت عام 1967. لم تكن هناك هزيمة! في كل ما تعلمناه، ما قرأناه، ما سمعناه لم ترد مفردة هزيمة. تفادى العرب استعمال تلك الكلمة لوصف ما جرى لهم ونجحوا في نسيانها أو على الأقل إخفاؤها. غير أن أمورا كثيرة طرأت على حياتهم فغيرتها بتأثير ما حدث.
غيرت النكبة طريقة التفكير السياسي لدى العرب، وهو ما استدعى انتهاء أسلوب حكم ليحل محله أسلوب حكم جديد. سقط النظام الملكي في مصر والعراق وحل محله نظام جمهوري كان فاتحة لقيام دولة الاستبداد التي تبين في ما بعد أن كل شعاراتها التي رُفعت من أجل تحرير فلسطين ما كانت لتُرفع إلا لتكون قناعا لمصادرة الحريات العامة وتأجيل حقوق المواطنة وإذلال المواطنين.
بعد نكسة حزيران 1967 أصيبت الشعوب العربية بإحباط حاولت الأنظمة السياسية أن تعالجه بمؤتمر اللاءات الثلاث في الخرطوم الذي استعاد جمال عبدالناصر من خلاله هالته بطلا قوميا. أما حين أنجزت القوات المصرية معجزتها في عبور قناة السويس واستعادة أجزاء من سيناء فإن فلسطين ظلت محتلة ولم يتحرر شبر منها.
عبر كل الزمن الذي سبق سقوط الأنظمة الوطنية، بدءا من نظام صدام حسين وانتهاء بنظام معمر القذافي كانت فلسطين هي المحور الذي تدور حوله السياسة العربية. وكما بدا جليا فإن المسألة الفلسطينية لم تتحرر من المتاهة التي يعيشها الفلسطينيون وحدهم.
كانت فلسطين التي يعرفها أبناؤها هي غير فلسطين التي اتخذت منها الأنظمة السياسية العربية مركبا لنزهة لا هدف لها سوى تزجية الوقت وإهمال استحقاقات الحكم. فبالرغم من كل اللغة الجادة التي كان العرب يستعملونها وهم يتحدثون عن تحرير فلسطين فإنهم كانوا يعرفون أن خطابهم لا يصل إلى العالم الذي كان ينظر إليهم بطريقة مستخفة. حتى صدام حسين وهو يلوح بفناء نصف إسرائيل كان عبارة عن ممثل رديء. غير أنه دفع ثمن تلك الحركة التي كان من شأنها أن تحيي أملا يُراد له أن يموت إلى الأبد.
لقد عشنا على أمل، كنا نعرف أن كل الطرق التي سلكها النظام السياسي العربي لا تؤدي إليه. لا في الحرب ولا في السلام. كان واضحا أن شعوبا مستعْبدة لن يكون في إمكانها أن تحرر أرضا مستلَبة. ما الذي كان يفكر فيه الحاكم العربي وهو يحلم بتحرير أرض فلسطين وفي الوقت نفسه يستعبد مواطنيه؟ ليست حرية الأرض إلا جزء من حرية الإنسان الذي يقيم عليها. وبالعكس ما كان يفكر فيه الحاكم العربي ليس صحيحا.
يفيدنا التاريخ أنه كان هناك تنافس بين الأنظمة العربية لا على المزايدة على قضية فلسطين وحسب، بل وأيضا على احتواء تنظيمات الكفاح الفلسطيني المسلح التي سعت إلى أن يكون قرار تحرير فلسطين فلسطينيا بالدرجة الأساس. ذلك التنافس هو ما أدى إلى إفساد النضال الوطني الفلسطيني والذهاب به اضطرارا إلى فخ أوسلو.
كما لو أن العرب خُذلوا في “أوسلو”. إنهم في حقيقة الأمر هُزموا مرة أخرى. لم تهزمهم إسرائيل وحدها هذه المرة، بل شارك الفلسطينيون في صنع تلك الهزيمة. غير أن ما حدث كان في جزء منه موضع ترحيب. من غير غطاء عربي تصرف الفلسطينيون وصار عليهم أن يعالجوا النتائج سواء أصابوا أم أخطأوا.
ذلك كلام واقعي. غير أن الواقعي أيضا أن العرب من جهتهم لم يتخلوا عن فلسطين التي ألحقت بهم الهزيمة مرات عديدة وتدخلت في تغيير مسارهم التاريخي بطريقة حيوية. فبالرغم من أن السلطة الفلسطينية كانت وليد اتفاقية أوسلو غير أنها كانت تحظى دائما بدعم العرب. حتى حركة حماس ما كانت تستمر لولا التمويل القطري وهو تمويل سخي.
الآن بعد أن انتهى زمن صدام حسين واعتراف الفلسطينيين بأنهم أخطأوا في أوسلو هل على العرب أن يقعوا في متاهة الخلاف الفلسطيني – الفلسطيني الذي كانت من نتائجه حروب غزة السبعة؟ يقينا أنهم يدركون أن هناك هزيمة جديدة تقف في انتظارهم إذا مشوا وراء عاطفتهم. مأساة غزة وأهلها ينبغي أن تعالج خارج الأطر العاطفية وما من حل سوى أن يُعيد الفلسطينيون القضية إلى مجالها العربي. أما الاستمرار في فتح الباب لإيران وفصل غزة عن مسار النضال الوطني الفلسطيني فإنه سيقضي على آخر أمل لفلسطين العربية.