رأي

فلاد المؤثر وكيف تحول صديق قديم إلى شوكة دائمة في خاصرة بوتين؟

كتب الصحافي توم بيك في الاندبندنت :

حكم على الناشط الروسي المعارض فلاديمير كارا مورزا بالسجن 25 عاماً لخرقه قوانين “المعلومات المضللة” التي فرضها الرئيس فلاديمير بوتين، وهي قوانين تم تقديمها بعد اجتياحه أوكرانيا، الذي تخلى بوتين نفسه عن التظاهر بأنه أي شيء آخر غير الحرب.

كم هي عبثية مستويات التضليل المطلوبة لمواصلة بث الأكاذيب حول أوكرانيا حتى أن بوتين كاد في مناسبات عدة أن ينتهك القوانين التي فرضها شخصياً. 

قد يحكم على كارا مورزا بالسجن لمدة 25 عاماً، وبطبيعة الحال تتمثل جريمته بأنه امتلك الشجاعة ليقول الحقيقة وليصف روسيا في عهد بوتين بدقة على أنها نظام كليبتوقراطي [يحكمه لصوص] وأوتوقراطي [استبدادي] كما هو واقع الحال. 

كارا مورزا (41 سنة) يقضي عقوبة فرضها على نفسه بالكامل تتمثل بالكفاح لمستقبل مختلف لبلاده وبعدم الاستسلام أبداً.

لقد كاد بالفعل أن يموت مرتين بعد محاولة اغتيال من طريق تسميمه بمواد كيماوية، وسبق أن أمضى عاماً في السجن من دون أن يرى زوجته وأولاده الثلاثة. 

مر 25 عاماً منذ المرة الأولى التي التقيت فيها بفلاد، وقد عرفته جيداً لبضع سنوات عندما كنا طلاباً جامعيين، وكان الجميع يناديه فلاد وأنا بدوري سميته فلاد عندما أجريت معه مقابلة قبل ست سنوات عقب محاولة تسميمه الثانية، ولم أكتشف إلا أخيراً أن فلاد فعلياً هو اختصار لاسم فلاديسلاف، في حين اعتاد الناس أن يسموا “فوفا” أي شخص اسمه [الفعلي] فلاديمير. 

لكنه وكعادته لم يذكر الأمر يوماً على امتداد عشرات السنين التي قبل فيها وبسرور بأن يطلق عليه الآخرون اسماً خاطئاً، وهو سبق أن ارتاد المدرسة في إنجلترا وتكلم لغتين بطلاقة تامة واتسم أصلاً بجاذبية وطاقة من النوع الذي يتمتع به عدد كبير من السياسيين. 

وكان راشداً يعود للالتفات إلى عالم من الأطفال، وذات ليلة أدار لبعض منا شريط فيديو “في إتش إس” VHS كان بحيازته، ظهر فيه والده الصحافي، وكان اسمه أيضاً فلاديمير كارا مورزا، في بث حي عبر قناة تلفزيونية حرة، بينما كانت القناة [المذكورة] تتعرض للمداهمة والإقفال على يد أجهزة الاستخبارات الروسية، أواخر تسعينيات القرن الـ 20. 

وكان يعرف آنذاك، أي منذ سنوات عدة إلى أين يتجه القطار، وفي العام الماضي ألقى خطاباً أمام مجلس شيوخ ولاية أريزونا قال فيه “إن روسيا أمة رموز”، وإن ما كان عليه بوتين اتضح تماماً منذ اللحظة التي قرر فيها عام 1999 تغيير النشيد الوطني الروسي وإعادته إلى نسخة النشيد التي صادق عليها ستالين. 

ومنذ ذلك الحين وعلى امتداد عقود قال إن زعماء العالم “فرشوا له السجاد الأحمر وصافحوه أو طالبوه “بالبدء من الصفر”، وكانوا شركاء في تهدئته وسمحوا بتكديس أموال منهوبة في مصارفهم أو أنفقوا المال ليعيشوا حياة من الترف في لندن أو باريس أو نيويورك.

وهو أمضى 25 عاماً على تحذيرنا حتى إنه قال ذات مرة بخفة منذ زمن بعيد، ربما في عام 2001، إنه عمل متعب ولن يصل إلى أي مكان، مضيفاً أن كيله طفح نسبياً. وكان يستعد آنذاك لنيل شهادة في التاريخ، فذكرت أمامه حادثة “انشقاق أفنتين”، إذ انسحبت أحزاب المعارضة من البرلمان الإيطالي احتجاجاً على جريمة قتل جياكومو ماتيوتي، بيد أن تداعياته تمثلت بمنح فرصة لموسوليني كي يتولى مقاليد حكم ديكتاتوري، وأنا أذكر ذلك جيداً لأنها كانت المرة الوحيدة التي عرفت فيها أمراً لم يكن يعرفه هو.

وفي كل مرة رأيته فيها بعد ذلك تحدث أمامي عن “انشقاق أفنتين”، “لقد انسحبوا وحسب يا توم… استقالوا… انسحبوا… وانظر ماذا حصل”.

كان “انشقاق أفنتين” أول موضوع ذكره عندما اتصلت به عام 2017، وهو تناوله ليثبت ببساطة أنه لن يقبل يوماً بالاستسلام وسيذهب إلى النهاية مهما كان الثمن، وفي تصريحه أمام المحكمة الأسبوع الماضي اتخذ موقفاً متحدياً كما كان متوقعاً. 

وأكد قائلاً “ليس فقط أنني لا أشعر بالندم، فأنا في الواقع فخور بما فعلته”، مضيفاً “ألوم نفسي على أمر واحد فقط وهو أنه على امتداد سنوات من نشاطي السياسي لم يتسن لي أن أقنع عدداً كافياً من مواطني بلدي، ومن السياسيين في الدول الديمقراطية، بالخطر الذي يمثله الكرملين على روسيا والعالم، واليوم بات الأمر واضحاً أمام الجميع إنما لقاء ثمن مريع وهو الحرب”.

لقد حاول أصدقاء فلاد في المملكة المتحدة نشر قضيته والإعلان عنها معظم العام الماضي، بيد أن قضيته كانت معروفة جيداً في الأساس، وديناميكيته الكبيرة في متابعة قضيته أوصلته مثلاً إلى الارتباط بصداقة متينة مع جون ماكين حتى إن فلاد كان من بين الأشخاص الذين حملوا نعش هذا الأخير في جنازته.

واستطراداً تعلم فلاد في المملكة المتحدة وأقام في الولايات المتحدة، وهو يكافح الآن في سبيل الحقوق التي تتمتع بها هاتان الدولتان كي لا تزول عن الوجود كلياً في بلاده، وبالتالي فقضيته هي قضيتنا ولا بد من النظر إليه على أنه واحد منا. 

والأرجح أنه كان على معرفة بتداعيات ما فعله عندما أمضى الأسابيع الأولى بعد الاجتياح منتقداً بوتين عبر قنوات التلفزيون الدولية من داخل شقة في موسكو، ومع ذلك رفض الرحيل، فالحال أنه عاد من لندن لموسكو تحديداً للقيام بذلك معتبراً أن هذا واجبه، فكيف له أن يتوقع كسياسي في صفوف المعارضة الروسية أن يواجه الشعب الروسي بوتين إن لم يواجهه هو بنفسه؟ وهو يعرف أن أية عقوبة تفرض عليه ستكون بلا معنى على الإطلاق. 

ويقول ألكسي نافالني في هذا الصدد إنه هو وبوتين يقضيان عقوبة بالسجن مدى الحياة، ولا بد لواحد منهما أن ينهيها أولاً، وجاءت كلماته الأخيرة في المحكمة كالتالي:

“أعرف أن يوماً سيأتي وينجلي الظلام عن بلادنا ويكون يوماً يسمى فيه الأسود أسود والأبيض أبيض، ويوماً يصدر فيه إقرار رسمي بأن نتيجة اثنين زائد اثنين هي أربعة، تسمى فيه الحرب حرباً ويسمى فيه الغاصب غاصباً ويعترَف فيه بأن المجرمين هم الذين أشعلوا فتيل الحرب وأطلقوها وليس الذين حاولوا إيقافها، وسيأتي هذا اليوم حتماً تماماً كما يأتي الربيع حتى بعد أقسى شتاء، وعندئذ سيفتح مجتمعنا أعينه ويذعر حيال الجرائم المريعة التي ارتكبت بحقه، ومن هذا الإدراك وهذا التفكير سيبدأ الطريق الطويل والوعر، إنما الحيوي نحو انتعاش روسيا واستردادها وعودتها لمجتمع الدول المتحضرة، وحتى اليوم، وحتى وسط الظلام المحيط بنا، وحتى وأنا جالس في هذا القفص، أحب وطني وأؤمن بشعبنا وأؤمن بأننا نستطيع المضي قدماً على هذا الطريق”. 

هذه القيم كونية ولا بد لشعب أي دولة من أن يكون ممتناً لوجود أمثال فلاد ليكافحوا باسمهم، وكفاحه هذا لا يجب أن يختفي في غياهب النسيان.

أخبار مرتبطة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى