رأي

فرنسا والرحيل المر

كتب رامي الخليفة العلي في صحيفة عكاظ.

في السادس والعشرين من شهر ‏يوليو الماضي اهتزت القارة الأفريقية خاصة منطقة الساحل والصحراء على خبر الانقلاب العسكري في النيجر، ليس لأن القارة غير معتادة على الانقلابات العسكرية، بل لأن النيجر لم تكن مرشحة لهذا المآل، فقد قطعت شوطاً لا بأس به من التحول الديمقراطي، كما أن فرنسا المستعمر القديم لهذا البلد راهنت بقوة على الرئيس المنتخب محمد بازوم وجعلت النيجر نقطة ارتكاز عسكرية وسياسية لنفوذها ووجودها في منطقة الساحل والصحراء، وقد تزايدت تلك الأهمية بعد الانقلابات العسكرية التي شهدتها كل من مالي وبوركينا فاسو، وهاتان الدولتان سارعتا بالطلب من فرنسا الخروج عسكرياً وأمنياً، والأدهى والأمر بالنسبة لساكن الإليزيه أن السلطات الجديدة فيهما استبدلت القوات الفرنسية بمليشيات فاغنر مما مثّل صفعة للسياسة الفرنسية والمصالح الغربية، إذا ما أخذنا بعين الاعتبار النار المتقدة في أوكرانيا واعتبار روسيا خصماً وجودياً للقارة العجوز كما وصف مفوض السياسة الخارجية الأوروبية جوزيب بوريل. لذلك تمسكت فرنسا بنظام الرئيس بازوم خصوصاً أن العلاقات مع نيامي استراتيجية؛ بسبب واردات اليورانيوم الذي يشغّل المفاعلات النووية الفرنسية وكذا الموقع الاستراتيجي للنيجر وانفتاحها على دول كثيرة تمثل الفضاء الفرنسي في أفريقيا. رفضت فرنسا الانقلاب ولم تعترف بسلطات الأمر الواقع العسكرية كما أسمتها وبقيت على اعترافها بشرعية الرئيس محمد بازوم، ولكن بعد مرور أسابيع قليلة اكتشف الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون أن رهاناته لم تكن في محلها. فقد راهنت فرنسا على أن أنصار الرئيس وكذا أنصار الديمقراطية سوف يتحركون ويضغطون على المجلس العسكري الحاكم، ولكن ما حدث هو العكس، حيث استخدم المجلس العسكري الخطاب الشعبوي المعادي لفرنسا الذي اجتذب شرائح واسعة من المجتمع النيجري، وهذه الشرائح ترى أن بلادها وهي الأفقر في العالم لم تستفد من العلاقات المتشعبة مع باريس على امتداد عقود، بل وكثير من النخبة النيجرية تحمّل فرنسا مسؤولية سوء الأوضاع الاقتصادية والأمنية والسياسية. راهنت فرنسا على الانشقاق في النخبة العسكرية خصوصاً أن البعض منها لديه تكوين فرنسي من حيث التدريب العسكري والثقافة السياسية ولكن ذلك لم يحدث، فالموجة المعادية لفرنسا عالية وقوية ومن الصعب الوقوف في وجهها حتى من أكثر الضباط ولاءً لفرنسا. لكن الطعنة القوية كانت من واشنطن التي عارضت أي تدخل فرنسي عسكري ولم تنسق مع باريس في تحركاتها المتعلقة بالنيجر، بل لم توصف ما حدث في النيجر أنه انقلاب، هذا الموقف الأمريكي انعكس على مواقف الدول الأوروبية خصوصاً ألمانيا التي بدت فاترة في تعاملها مع التوجهات الفرنسية، وبالتأكيد فإن باريس لم تستطع تحمّل تكاليف عملية عسكرية دون غطاء غربي حتى لو ساندتها دول الإيكواس.

أمام هذا الواقع المحبط بالنسبة للقيادة الفرنسية لم يجد الرئيس الفرنسي بدّاً من سحب سفيره من العاصمة النيجرية، وكذلك سحب القوات الفرنسية قبل نهاية العام الحالي بناءً على طلب السلطات الانقلابية ولتلملم فرنسا ما تبقى لها في النيجر وترحل رحيلاً مراً، وكل أملها أن لا تستمر أحجار الدومينو بالتساقط في بلدان أخرى، ولعل الوقت حان بالنسبة لباريس أن تعيد النظر في توجهاتها الاستراتيجية في مجال السياسة الخارجية وأن ترسم استراتيجية في القارة الأفريقية تخرج فيها من إرثها الاستعماري ثقيل الوطأة.

أخبار مرتبطة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى