رأي

فرنسا والاستبداد الحقوقي الناعم.

كتب محمد طيفوري في العربي الجديد.

أعاد ارتداء لاعبة في المنتخب المغربي غطاء الرأس (الحجاب)، في نهائيات كأس العالم للنساء المقامة حالياً في أستراليا ونيوزيلندا، النقاش بشأن حرية اللباس داخل الملاعب، خصوصاً في الأوساط السياسية والإعلامية في فرنسا حيث نالت اللاعبة وابلاً من النقد والاستهجان والسخرية، لكسرها قاعدة “الحياد في الملاعب الرياضية” التي استند عليها مجلس الدولة الفرنسي، أواخر شهر يونيو/ حزيران الماضي، لفرض حظر الحجاب على اللاعبات في المنافسات الرياضية، تثبيتا للمادّة الأولى من لوائح الاتحاد الفرنسي لكرة القدم، عام 2016، التي تمنع “أي علامة أو ملابس تظهر بوضوح الانتماء السياسي أو الفلسفي أو الديني أو النقابي للمرء”.
وبذلك، يضع الاتحاد المحلي لكرة القدم نفسه في تعارضٍ مع القوانين الجديدة للاتحاد الدولي لكرة القدم (الفيفا) التي سمحت، بدءاً من أول مارس/ آذار 2014، للاعبات بالمشاركة في المباريات مرتديات الحجاب، وكذلك قوانين اللجنة الأولمبية الدولية. كما يتناقض مع أولى مواد الدستور الفرنسي التي تنصّ على “المساواة بين جميع المواطنين أمام القانون من دون تمييز في الأصل أو العرق أو الدين. وتحترم جميع المعتقدات”.
يثبت العقل الجمعي الفرنسي مجدّدا أنه لا يزال أسير الرؤية الاستعمارية للعالم، فاللاعبة بالحجاب، مهما حاولت أن تكون “تقدّمية”، تبقى أسيرة “نزعة محافظة دينية رجعية تلتف في مظهر من مظاهر الحداثة”. بمثل هذه العبارات وأخواتها، اختُزلت صورةٌ تفاعل معها شعوب العالم بإيجابية، باستثناء الفرنسيين الذين نصّبوا أنفسهم أوصياء من أجل “تحرير” المرأة، فوحدهم في العالم أدرى بحرية المرأة وحقوقها، ولسان حالهم يردّد “نحن فقط من يدرك متى وكيف تكونين حرّة”.
سقطة جديدة لفرنسا الحرية والأنوار، في الرياضة هذه المرّة، بعدما فضحت بازدواجية المعايير نفسها أمام الأشهاد، فأن ترتدي لاعبةُ قطعة من الثوب فوق رأسها في مباراة رياضية أو يتعامل الحكّام بمرونة مع اللاعبين المسلمين الصائمين في أثناء المباريات، بالسماح لهم بالإفطار خلال شهر رمضان، مثلما هو الحال في الدوري الإنكليزي، مخالفة لأحكام النظام الأساسي للاتحاد، وإشارة تفيد الإخلال بمبدأ “حياد كرة القدم”، كما جاء في بيان صدر عن الاتحاد الفرنسي للعبة، أواخر مارس/ آذار الماضي.

في الآونة الأخيرة، شاع في الأوساط الفرنسية خصوصاً، والغربية بشكل عام، مفهوم “حرية الاختيار الجنسي”

أما تنظيم الدوري المحلي حملة سنوية لدعم المثلية الجنسية، وإجبار اللاعبين على ارتداء قمصان تحمل أرقاماً بألوان قوس قزح، بل ومطالبة وزيرة الرياضة أوديا كاستيرا بتشديد العقوبات ضد كل لاعب امتنع عن الاحتفاء باليوم العالمي لمساندة المثليين (راجع مقال الكاتب “فرنسا وهذه الحرية” في “العربي الجديد” 28/ 5/ 2022)، فلا يمسّ مبدأ حياد الرياضة في شيء، ولا يشكّل أي اعتداء على حرية الأشخاص في إظهار مواقفهم أو إضمارها! وإنما يؤكّد، حسب الوزيرة، أنها تعيش في بلد “.. شجّع دائماً على احترام حقوق الإنسان”.
ارتباطاً بالحرية دائماً، وبعيداً عن عالم الرياضة، أقرّ مجلس الشيوخ الفرنسي بالإجماع، في 21 يناير/ كانون الثاني 2021، قانوناً يحدّد السن القانونية لممارسة الجنس مع القاصرين بـ13 عاماً؛ بذلك يخفّض “سن الرشد الجنسي” بسنتين عن المعمول به سابقا (15 عاماً). في هذا العمر، يصبح الطفل في فرنسا قادراً على الدخول في علاقةٍ جنسيةٍ رضائية مع الآخرين من دون مشكلات. وفي المقابل، لا يستطيع هذا الطفل، وتحت طائلة المتابعة القانونية، إبرام عقد زواج حتى يبلغ سن الرشد القانوني المحدّد بـ 18 عاماً.
في الآونة الأخيرة، شاع في الأوساط الفرنسية خصوصاً، والغربية بشكل عام، مفهوم “حرية الاختيار الجنسي”، فأنصار المثلية يرون في إجبار الأطفال “ذكوراً أو إناثاً” على متابعة حياتهم بالنوع ذاته اعتداء على حقوق الإنسان. لذا وجب تخييرهم في النوع الذي يرغبون مواصلة حياتهم فيه، على غرار اختيار العقيدة الدينية أو التوجّه السياسي… يحتم الأمر إذن تحييد المناهج الدراسية وألعاب الأطفال، من دون تمييز أو تخصيص لأي جنسٍ معين، لأن ذلك مشجّع على تجريب حياة الطرف الآخر، فالطفل وحده من يملك صلاحية تحديد رغبته؟

حوادث تؤكّد من جديد أن شعار الثورة الفرنسية “حرية، مساواة، أخوّة” أضحى جزءا من التاريخ،

تكشف هذه الصورة حجم التناقض في عقل الأنوار الفرنسي، فلا ضير دخول الطفل في علاقة جنسية مع الغير، بل لا مشكلة حتى في اتّخاذه، رغم حداثة سنه وقلة وعيه وضعف إدراكه وتمييزه، قراراتٍ مصيرية، مثل تغيير الجنس الذي ترافقه آثاره بقية حياته، وسندهم في ذلك ما تلقوه، ابتداء من سن العاشرة، في دروس في الجندرية والمثلية التي باتت شبه إلزامية في المدارس العمومية في فرنسا. أكثر من ذلك، تنامي توجّه يطالب باستيراد التجربة الكندية، حيث يتيح القانون إمكانية إعطاء أدوية تحوّل جنسي للأطفال من دون موافقة الآباء، الذي يصبح مهدّداً بالسجن بدعوى ممارسة العنف ضد الطفل عند اعتراضه على الأمر.
تُضاف حوادث إلى قائمة طويلة تؤكّد من جديد أن شعار الثورة الفرنسية “حرية، مساواة، أخوّة” أضحى جزءا من التاريخ، فثابت الحرية؛ أحد ثوابت الثورة الثلاثة، أصبح أداة في أيدي حكومات الجمهورية الخامسة، منذ بداية الألفية الثالثة، تمارس بمقتضاها “طغيان الأكثرية” ضد المستضعفين من مكوّنات المجتمع الفرنسي.
سيذكر التاريخ أن قضاء فرنسا الأنوار انتصر لحق الديك في الصياح حتى الصباح؛ في واقعة الديك موريس الشهيرة (سبتمبر/ أيلول 2019)، التي ساهمت في إخراج قانون “حماية تراث الأرياف الحسّي” (2021). كما لن ينسى سقوطه المدوّي في اختبار حماية حقوق الأقليات؛ خصوصاً المسلمين والملوّنين، فباسم الدفاع عن الحرية يقرّر مجلس الدولة؛ أعلى هيئة قضائية في البلاد، متى وكيف تكون المرأة في فرنسا حرّة!

أخبار مرتبطة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى