
فرنسا ـ حسين زلغوط, خاص “رأي سياسي”:

أحيت فرنسا، أمس الأول، ذكرى هدنة الحرب العالمية الأولى في احتفالٍ مهيب أُقيم أمام قوس النصر بباريس، حضره الرئيس إيمانويل ماكرون إلى جانب رؤساء فرنسيين سابقين، باستثناء الرئيس الأسبق نيكولا ساركوزي الذي غاب عن المناسبة بعد الإفراج عنه مطلع الأسبوع الحالي.
تأتي هذه الذكرى، التي تحمل طابعًا وطنيًا عميقًا، لتجدّد التذكير بثمن السلام ووحدة الأمة الفرنسية في وجه التحولات التي يشهدها العالم.
وحمل المشهد أمام قوس النصر دلالاتٍ رمزيةً قوية، إذ اصطفّ الحضور الرسمي والعسكري والمدني في لحظة صمتٍ عند شعلة الجندي المجهول، في إحياءٍ لتضحيات ملايين الجنود الذين سقطوا دفاعًا عن الوطن. وبدا الحضور المشترك للرؤساء السابقين إشارةً إلى تماسك الدولة الفرنسية واستمرارية مؤسساتها رغم اختلاف التوجّهات السياسية، ما منح الاحتفال بُعدًا وطنيًا يتجاوز الحسابات السياسية والحزبية.
أمّا غياب ساركوزي، الذي أُفرج عنه يوم الاثنين الماضي بعد خضوعه لإجراءاتٍ قضائية أثارت جدلًا طويلًا، فقد لفت الأنظار وأثار موجةً من التعليقات في الأوساط السياسية والإعلامية، بين من اعتبره خيارًا شخصيًا حفاظًا على الخصوصية، ومن رأى فيه دلالةً على مرحلةٍ جديدة في علاقة الرجل بالحياة العامة.
ورغم هذا الغياب، فقد جاءت مراسم هذا العام محمّلةً برسائل سياسية واضحة: توحيد الصف الفرنسي في مواجهة الأزمات، وتعزيز الإحساس بالانتماء الوطني في زمنٍ تتزايد فيه التحديات الاقتصادية والاجتماعية والأمنية. وهكذا، لم يكن الاحتفال مجرّد تذكّرٍ لمحطةٍ تاريخية، بل مناسبةً لتجديد العهد بين فرنسا وتاريخها، وبين الدولة ومواطنيها، على درب السلام والوحدة.
فهذا الاحتفال ليس مجرّد موعدٍ سنوي يُضاف إلى أجندة الدولة الفرنسية، بل هو لحظةُ تأمّلٍ جماعي تستحضر فيها الأمة الفرنسية آلام الماضي وتضحيات أبنائها الذين سقطوا دفاعًا عن الوطن.
ففي الحادي عشر من تشرين الثاني عام 1918، وضعت الحرب العالمية الأولى أوزارها بعد أربع سنواتٍ من الدمار الهائل الذي خلّف ملايين القتلى والجرحى، وترك بصماته العميقة على الوعي الأوروبي والعالمي. ومنذ ذلك التاريخ، تحوّل هذا اليوم إلى رمزٍ للسلام والوحدة، وإلى مناسبةٍ وطنية يجتمع فيها الفرنسيون حول قيم الجمهورية التي تُعدّ الذاكرة إحدى ركائزها الأساسية.
بدأت المراسم أمام قوس النصر بمشهدٍ مهيب، حيث وضع الرئيس ماكرون إكليلًا من الزهور على قبر الجندي المجهول، وأشعل الشعلة الأبدية التي ترمز إلى استمرار الذاكرة، وتخلّلت اللحظة دقيقةُ صمتٍ جمعت الحضور في تأمّلٍ عميق أمام صدى التاريخ الذي ما زال يستوطن الضمير الفرنسي. وقد عكست مشاركة الرؤساء السابقين روحَ الاستمرارية التي تحرص الجمهورية على تكريسها، باعتبار أن احترام الذاكرة الوطنية يقف فوق كل الانقسامات السياسية.
هذه المناسبة لم تخلُ من رسائل سياسية واضحة بعث بها الرئيس ماكرون في اتجاهاتٍ متعددة. فمن جهةٍ، حرص على تقديم صورة رئيسٍ يوحّد ولا يُفرّق، مستثمرًا رمزية الحدث لتأكيد استمرارية الدولة وتماسك مؤسساتها في زمنٍ يتزايد فيه الاحتقان الاجتماعي والاقتصادي. ومن جهةٍ أخرى، بدا واضحًا أنه أراد توجيه خطابٍ وطني جامعٍ يُعيد التوازن بين التاريخ والسياسة، في ظلّ مناخٍ أوروبي مضطرب يفرض على فرنسا استعادة دورها كقوة سلامٍ وحوار.
كما شكّل الاحتفال فرصةً للتذكير بدور الشباب الفرنسي في حمل مشعل الذاكرة، إذ شارك طلابٌ من مدارس باريس في المراسم، تلا بعضهم نصوصًا تذكاريةً ورسائل كتبها جنودٌ مجهولون من خنادق الحرب. تلك اللحظة الإنسانية أعادت التأكيد على أن الذاكرة ليست مجرّد سردٍ للماضي، بل أداةٌ تربوية لبناء المستقبل، وغرس قيم المواطنة والانتماء في أجيالٍ جديدة تعيش في عالمٍ متغيّر لا يقلّ خطورةً عن عالم ما قبل قرنٍ من الزمن.
وهكذا، تجاوز احتفال هذا العام طابعه البروتوكولي ليصبح مناسبةً لتجديد العهد بين فرنسا وتاريخها، وبين الدولة ومواطنيها. ففي كل دقيقةِ صمتٍ، وفي كل شعلةٍ مضاءة، تستعيد فرنسا وعدها مع الذين ضحّوا من أجلها، ومع نفسها كأمةٍ اختارت أن تتذكّر لا لتنوح، بل لتتقدّم بثقةٍ نحو المستقبل، مدفوعةً بإرثها العريق وإيمانها بأنّ السلام لا يصمد إلا عندما تتوحّد الإرادة.




