
حسين زلغوط – خاص: “رأي سياسي”:

تأتي زيارة الموفد الفرنسي جان-إيف لودريان إلى بيروت في لحظة إقليمية بالغة الحساسية، حيث يتصاعد القلق اللبناني من احتمال الانزلاق إلى حرب جديدة، في ظلّ الحديث الإسرائيلي المتكرر عن “حتمية” نزع سلاح حزب الله بالقوة إذا تعذّر عبر التفاوض. ووسط هذه الأجواء المتوترة، تحضر فرنسا إلى بيروت بوزن سياسي كبير، محاولةً تثبيت وجودها وتعزيز دورها عبر طرح فكرة مؤتمر دولي يهدف إلى دعم الجيش اللبناني وتحصين الاستقرار الداخلي.
تدرك باريس أن الجيش اللبناني هو الجهة الوحيدة القادرة على لعب دور توازني وحماية الحدود الجنوبية والشرقية في مرحلة تُنذر بتغيير جوهري في المنطقة. لذلك تحاول الدفع نحو مؤتمر دولي يضمن تدفّق دعم مالي وتقني مستدام للمؤسسة العسكرية، سواء لرفع جهوزيتها أو لتحصين دورها في حماية السيادة وبسط سلطة الدولة من خلال العمل على حصرية السلاح.
بالنسبة لفرنسا، فإنّ دعم الجيش ليس مسارًا تقنيًا فحسب، بل ردًّا سياسيًا على سيناريوهات المواجهة، ورسالة بأن المجتمع الدولي يمتلك إرادة جدية لعدم ترك لبنان وحيدًا في لحظة شديدة الخطورة.
إنّ فرنسا تتابع بلا شكّ تصاعد الخطاب الإسرائيلي حول ضرورة “معالجة” ملف حزب الله، وهو خطاب يزداد حدّة مع استمرار الخشية من أن تكون أي حرب جديدة على لبنان ذات أبعاد إقليمية تتجاوز قدرة الداخل اللبناني على تحمّلها، خصوصًا في ظلّ هشاشة الاقتصاد والبنية التحتية. وتدرك باريس أنّ القرار اللبناني ما زال عرضة للضغوط المتعاكسة، وأنّ الاستقرار السياسي لا يكفي وحده لمنع الانفجار ما لم تُحصَّن المؤسسات وفي مقدّمها الجيش. وهي لذلك تتعامل مع فكرة المؤتمر الدولي لدعم الجيش كمدخل لتوسيع نفوذها وإعادة تكريس حضورها التاريخي في لبنان، خصوصًا أنها تخشى تراجع دورها لحساب قوى إقليمية ودولية أخرى، ولا سيما الولايات المتحدة الأميركية والمملكة العربية السعودية. وبذلك يتحوّل المؤتمر من أداة دعم إلى منصة سياسية تمنح فرنسا حضورًا مؤثرًا في لحظة تُعاد فيها صياغة قواعد التوازن في المنطقة، وعلى وجه الخصوص في لبنان.
كما ترى باريس أن جمع القوى الدولية حول دعم الجيش سيساعد على تعزيز الاستقرار ويشكّل شبكة أمان تُبعد شبح الحرب، أو على الأقل تحدّ من تداعياتها في حال وقعت.
في الواقع، يقف لبنان أمام خيارات ضيّقة: التمسّك بالتهدئة رغم الضغوط المتصاعدة، أو الانجرار إلى مواجهة قد تفتح بابًا على مرحلة طويلة من عدم الاستقرار. وفي هذا المشهد الملبّد، تحاول فرنسا الظهور كضامن ومسَهِّل للتواصل بين الأطراف المتنازعة، وكجهة تمتلك القدرة على فتح قنوات مع إسرائيل كما مع لبنان.
من هنا تأتي زيارة لودريان لتؤكد أن باريس ليست مراقبًا، بل لاعبًا يسعى لقطع الطريق على حرب مدمّرة، عبر تعزيز دور الجيش بوصفه المؤسسة الوحيدة القادرة على فرض مظلّة استقرار فوق التجاذبات.
كما أن زيارة لودريان تُظهر أن فرنسا قررت المضيّ قدمًا في مبادرة متكاملة تعترف بواقع التوتر وتعمل على الحدّ من انفجاره. فالدفع نحو مؤتمر دولي لدعم الجيش ليس خطوة تقنية بل تحركًا استراتيجيًا يعكس رغبة باريس في الإمساك بجزء من خيوط اللعبة اللبنانية، خصوصًا في لحظة يتشابك فيها الأمن بالسياسة والحدود بالتوازنات الإقليمية.
وبمعنى أدق، لقد حملت زيارة لودريان رسالة فرنسية حازمة مفادها أنّه في زمن تُعاد فيه صياغة خرائط النفوذ على وقع التهديدات الإسرائيلية، فإنّ حماية لبنان ضرورة دولية… لا خيارًا يمكن التعامل معه وفق المصالح.




