رأي

فرنسا بعد ليكورنو الثاني: صراع على أنقاض الجمهورية الخامسة

كتب سعيد محمد, في الأخبار:

يدفع إصرار إيمانويل ماكرون على سيباستيان ليكورنو لرئاسة الوزراء في فرنسا، البلاد إلى الشلل التام، منذراً بنهاية مبكرة لمشروع الأول النيوليبرالي، وفاتحاً الباب أمام صراعٍ مفتوحٍ على أنقاض الجمهورية الخامسة.

لا تزال الأزمة البنيوية العميقة تعصف بأسس نظام الجمهورية الفرنسية الخامسة، فيما لم يجد إيمانويل ماكرون مهرباً من الاستحقاقات بحلّ البرلمان أو الاستقالة من منصبه، ليُعيد تكليف سيباستيان ليكورنو تشكيلَ حكومة جديدة، للمرة الثانية في أقلّ من أسبوع. ولعلّ هذا الفصل الجديد في «دراما الماكرونية»، يتجاوز كونه أزمة حكومة، إلى أزمة نظام سياسي واقتصادي واجتماعي، بات عاجزاً عن إدارة تناقضاته المتفجّرة، في حين كشفت مهزلة حكومة الـ836 دقيقة (ليكورنو الأولى)، وما تلاها من تشبثٍ بالاسم نفسه، عن فراغ هائل في السلطة، وعن وصول المشروع «الماكروني» النيوليبرالي إلى نهايته الحتمية: الشلل التامّ.

والمشروع هذا، الذي حمله ماكرون لدى وصوله إلى الإليزيه عام 2017، مثّل، بامتياز، مصالح رأس المال الفرنسي المعولم، الذي رأى في بقايا دولة الرفاه وتماسك العقد الاجتماعي الفرنسي، عائقاً أمام تعظيم أرباحه، وتمحورت مهمّته التاريخية حول تسريع وتيرة الإصلاحات النيوليبرالية: تفكيك قانون العمل، خصخصة القطاعات العامة، تخفيض الضرائب على الشركات والثروات الكبيرة، وأخيراً، تتويج ذلك المسار بتمرير قانون رفع سن التقاعد بالقوّة، والضرب عرض الحائط بأكبر حركة احتجاجات شعبية شهدتها البلاد منذ عقود.

ولتحقيق ذلك، حارب ماكرون الأحزاب التقليدية (الاشتراكي والجمهوري) التي أدارت الدولة الفرنسية لعقود، وعمد إلى خلق «وسط» سياسيّ مصطنع، لا يمثّل في حقيقته سوى مصالح نخبة ضيقة، ويفتقر إلى أيّ قاعدة اجتماعية حقيقية. وإذا كانت هذه الإستراتيجية قد نجحت في ولايته الأولى، بفضل الغالبية البرلمانية المريحة، فإنه عندما راهن بغطرسة على حلّ البرلمان في حزيران 2024، ظنّاً منه أنه سيسحق خصومه ويُعيد إنتاج هيمنته، جاءت النتيجة كارثية؛ فنتج من الانتخابات برلمان معلّق يعكس الاستقطاب الاجتماعي والطبقي في البلاد: كتلةٌ يمينية متطرّفة صاعدة، وكتلة يسارية موحّدة، و«وسط» ماكروني منكمش ومعزول.

على أن هذا البرلمان المشلول ليس سبب الأزمة، بل هو نتيجتها؛ وهو المرآة التي تعكس فشل النخبة البرجوازية، التي يمثّلها ماكرون، في فرض أجندتها بالقوّة بعدما فقدت قدرتها على الإقناع والهيمنة الأيديولوجية. هكذا، تعطّلت الآلة الدستورية التي صمّمها شارل ديغول لضمان سلطة تنفيذية قوية في خدمة مصالح الطبقة السائدة، وباتت عاجزة عن تمرير أبسط القوانين، وعلى رأسها الموازنة.

هكذا، وفي ما وراء الدراما السياسية في قصر ماتينيون، يدور صراع طبقي صريح ومباشر حول مسألة واحدة: من سيتحمّل تكلفة أزمة الرأسمالية الفرنسية المتفاقمة؟ الأرقام تتحدّث بوضوح: دين عامّ يتجاوز الـ115% من الناتج المحلي الإجمالي (قرابة 4 تريليونات دولار)، وعجز في الموازنة يُتوقّع أن يصل إلى 5.4% عام 2025، وتكاليف خدمة الدين التي قد تبلغ 75 مليار يورو العام المقبل، متجاوزةً موازنة التعليم.

هذه الأرقام تعني أن النموذج الاقتصادي القائم على الاستدانة لتمويل التخفيضات الضريبية للأغنياء والشركات، قد وصل إلى حائط مسدود؛ لتصبح مهمّة أيّ رئيس وزراء يكلّفه ماكرون، سواء كان ليكورنو الأول أو الثاني أو غيره، واحدة: تمرير موازنة تقشفية قاسية تلبّي إملاءات رأس المال الفرنسي، والمفوضية الأوروبية، والأسواق المالية، ما يعني بالضرورة مزيجاً من زيادة الضرائب غير المباشرة على غالبية الشعب، وخفض الإنفاق الاجتماعي على الخدمات الأساسية كالصحة والتعليم.

بات ماكرون محاصراً ومعزولاً أكثر من أيّ وقت مضى

وتمثّل إعادة تكليف ليكورنو، إصراراً عبثيّاً على المضيّ قدماً في هذا الطريق، وكأن ماكرون يتجاهل حقيقة أن البرلمان الحالي، بتكوينته الطبقية والسياسية، يرفض تمرير هذه الفاتورة. فالأحزاب السياسية التي لامها ليكورنو في خطاب استقالته الأولى «تتصرّف وكأن كلّاً منها يمتلك الغالبية»، لأنها بالفعل تمثّل مصالح اجتماعية متناقضة لم يَعُد من الممكن التوفيق في ما بينها في إطار النظام القائم.

وبالفعل، وفي خضمّ الفراغ الذي خلّفه انهيار الوسط الماكروني، تتصارع الآن رؤيتان متناقضتان لملء الفراغ: الأولى من ناحية أقصى اليمين المتطرّف، متمثّلةً بحزب «التجمع الوطني» الذي يتقن فنّ مخاطبة قاعدتَين متناقضتَين في آنٍ واحد؛ فهو من جهةٍ، يقدّم للطبقات الشعبية المتضرّرة خطاباً سيادياً يَعِدُ بحمايتهم عبر سياسات حماية اجتماعية انتقائية تستهدف «الفرنسيين أولاً»، ويصوّت ضدّ إجراءات التقشّف لكسب تعاطفهم، من جهةٍ أخرى، يبعث بإشارات طمأنةٍ مستمرةٍ إلى رأس المال بأنه البديل السلطوي القادر على فرض الانضباط الذي عجز عنه ماكرون.

لكن مشروعه لا يهدف إلى تغيير بنية النظام الاقتصادي، بل إلى تغيير إدارة التضحيات؛ فبدلاً من التقشّف النيوليبرالي الصريح، يقترح تقشّفاً قوميّاً شوفينيّاً يُلقي بكامل عبء الأزمة على المهاجرين والأجانب، وبالتالي يحافظ على مصالح رأس المال الأساسية، كما يعد هذا الأخير باستقرار قائم على القمع والهوية الإقصائية، لا على الرضى الاجتماعي.

وعلى النقيض من ذلك، ومن ناحية اليسار العالق في معضلة إصلاح نظام غير قابل للإصلاح، تُمثّل «الجبهة الشعبية الجديدة» التعبير السياسي المباشر عن رفض الطبقة العاملة وشرائح واسعة من الطبقة الوسطى، تحمُّل فاتورة الأزمة؛ إذ يقوم برنامج الجبهة – التي تجمع «الاشتراكيين» و«الشيوعيين» و«الخضر» و«فرنسا الأبية» – على إعادة توزيع الثروة، وتعزيز الخدمات العامة، وإلغاء القوانين النيوليبرالية الأكثر إجحافاً، في ما يُعدّ دفاعاً طبقيّاً مشروعاً. غير أن هذا البرنامج، على عدالته الظاهرية، يصطدم بحدود النظام نفسه؛ فأيّ حكومة يسارية ستجد نفسها مكبلةً بالقوانين الحديدية للرأسمالية الأوروبية: معاهدات الاتحاد الأوروبي التي تفرض قيوداً على الموازنة، وهيمنة البنك المركزي الأوروبي، وقدرة أسواق المال على معاقبة أيّ سياسة «غير صديقة».

وهنا بالضبط، تكمن معضلة هذا اليسار: إمّا تطبيق البرنامج ومواجهة حتمية مع هذه البنى الاقتصادية والسياسية التي تحكم القارة، وإمّا التراجع التدريجي عن الوعود تحت ضغط «الواقعية السياسية». وفي غياب الاستعداد للخيار الأول، يصبح الثاني طريقاً محتوماً لخيبة الأمل التي يستثمرها اليمين المتطرّف بفعالية.

على أي حال، بات ماكرون محاصراً ومعزولاً أكثر من أيّ وقت مضى، مع انهيار شعبيته إلى مستويات تاريخية متدنية (14%)، وتبنّيه خيارات كلها سيئة، في حين أن سقوط حكومة ليكورنو، وتكليفه مجدداً، ليسا سوى عرضين لمرض أعمق، هو استنفاد النموذج النيوليبرالي قدرته على توفير الاستقرار السياسي والاجتماعي.

أخبار مرتبطة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى