فرص الاتفاق النووي ومكائده

كتب محمد سيف الدين, في صحيفة الميادين:
طهران تتوقع وترغب باتفاق مع الأميركيين، لكنها تؤكد في الوقت نفسه اهتمامها بتطوير العلاقات مع موسكو، وعدم تأثير الاتفاق المرتقب على هذه العلاقة، خصوصاً في البرنامج النووي.
التفاوض الأميركي-الإيراني يسير بثبات في بيئة ألغام وفرص، لكن بموازاته، أحداث كبيرة تحصل الآن. المحطة الثانية في روما تبدو قفزةً إلى الأمام في هذا المسار، مع إشاراتٍ أكثر إيجابية مما كان متوقعاً في الأسابيع الماضية.
لكن بموازاة ذلك، هناك بيئة عالمية شديدة التوتر، ولا يمكن قراءة شيء من الأزمات الإقليمية، أو المفاوضات حول القضايا الشائكة مثل الملف النووي الإيراني، سوى من منظور هذه البيئة العالمية أيضاً.
تقول وول ستريت جورنال إن الرئيس الأميركي دونالد ترامب يعتزم مطالبة أكثر من 70 دولة بمنع الصين من شحن بضائعها أو الوجود في أراضيها. وهذا يمثل المرحلة المقبلة من الصراع العالمي. الصين هي الجائزة الكبرى والهدف الأكبر إذاً. وحساب كل الملفات الأخرى يجب أن يُرى من خلال ضروراتها.
كل عمل يقوم به ترامب الآن له معنى في اتجاه محاربة الصين. الخطوة المقبلة هي تخيير الدول بين أميركا والصين، حتى مع تصريح ترامب بأن اتفاقاً تجارياً كبيراً سيحل بين بلاده والصين.
هذا الخيار المطروح على الدول، هو أهم قرار سيُتخذ في عشرات الدول، إذا وصل ترامب إلى لحظة حاسمة لا يمتلك فيها خيارات أخرى سواه، قبل الخيار الأخير، أي استخدام القوة العسكرية والحصار المباشر.
لكنّ لقضايا الشرق الأوسط أيضاً أوجُهاً خاصة وخصوصيات دول، تبدأ محليةً وإقليمية، لكنها تصبح مفيدة في سياق الصراع العالمي.
الجديد في هذا السياق هو ما نقلته نيويورك تايمز عن أن واشنطن منعت “إسرائيل” من ضرب البرنامج النووي الإيراني مرتين، في عهد بايدن أولاً، ثم في عهد ترامب.
وهذا الكشف لا بد أنه يأتي في سياق الضغط على طهران في المفاوضات، بعد أيام فقط من تصريح ترامب بأن احتمال توجيه ضربة لإيران لا يزال قائماً، وأنه ربما يأتي بمشاركة إسرائيلية.
استخدام “إسرائيل” للضغط هدفه طبعاً الحصول على تنازلات من جهة، وتثمين دور ترامب وتعزيز نياته بأنه يريد فعلاً التوصل إلى اتفاق.
جولة روما
تصرّ إيران على دور سلطنة عمان الموثوق بالنسبة إليها. وموافقتها على الانتقال إلى روما في مباحثات السبت الثاني حفظت في طياتها دور السلطنة، وكانت مرِنةً في تقبل إشراك دور أوروبي في الحل المرتقب، لكون الأوروبيين كانوا من ضمن الاتفاق النووي السابق، واستمروا مع طهران في تنفيذه نسبياً بعد انسحاب ترامب منه.
الدور الأوروبي الآن، وخصوصاً في حال التوصل إلى اتفاق، مفيد من ناحية العقوبات التي ترغب طهران في رفعها عن كاهلها، واستعادة شيء من طبيعية العلاقات مع الغرب.
لكن الملف النووي معقد ومتشابك مع ملفي البرنامج الصاروخي، والنفوذ الإقليمي. لماذا؟
يبقى منع إنتاج السلاح النووي مسألةً غامضة دائماً، فتخصيب فوق نسبة 90% ليس السبيل الوحيد لإنتاج القنبلة، بل يمكن تقنياً الوصول إلى السلاح بنسب أقل وبكميات أكبر.
هكذا يصبح التركيز الغربي على حاملات الشحن النووية، ومنع امتلاك إيران لصواريخ قادرة على إيصال الشحنات المزعومة إلى أهدافها المفترضة، وفق سيناريوهات استباقية يشملها التفكير الغربي في مقاربة التفاوض مع إيران.
ورغم أن طهران تؤكد عدم نيتها إنتاج السلاح، يركز الغربيون على البرنامج الصاروخي من أجل ضمان عدم إمكانية تحقيق امتلاك السلاح أو سبل استخدامه. أين المشكلة إذاً؟
لا ثقة بين الطرفين حتى الآن، وهذا أصعب ما في هذا التفاوض، والسبب في عدم استدامة الاتفاق السابق، ثم المشكلات الأخرى، فضلاً عن تحيّز الغرب لإسرائيل وأمنها وتفوقها على حساب جميع دول المنطقة. لكن هناك رسائل حملتها الأشهر الماضية وكانت خطرة جداً، وربما تكون سبباً في تأخير الحرب الإقليمية الكبرى أو منعها.
فقد أرسل ظهور الصواريخ الفرط صوتية بشكلٍ حقيقي في اليمن وفي إيران، رسائل ميدانية شديدة الوضوح بأن البرنامج الصاروخي تجاوز مرحلة المنع أو ما يفكر فيه الغربيون لناحية حاملات المقذوفات إلى “إسرائيل” أو أي هدف غربي آخر.
وهذا يصعّب التفاوض لناحية أن الحديث هنا يجب -وفق الرؤية الأميركية- أن يشكل صواريخ موجودة بالفعل، وليس منع إنتاج صواريخ لم تنتَج بعد.
وتمسّك إيران ببحث الملف النووي بصورة محددة، مردّه إلى أن طهران ربما تكون مطمئنة إلى قدرة الردع الاستراتيجي لديها، لأسباب منها ما هو ظاهر، ومنها ما يقع ضمن غموض الموقف التفاوضي الإيراني، والدي لا فائدة لدى طهران من كشفه لسببٍ مهم، وهو أن كشف القدرات كلها سوف يجعلها عبئاً على طهران نفسها، وسبباً لعدم رفع العقوبات عنها، بل زيادتها.
هكذا، تكون لإيران مصلحة في تقليص الحديث عن قدراتٍ كبرى، لكن مع الاحتفاظ بهذا الغموض البناء الذي يحميها استراتيجياً، ولا يعرّضها لمزيد من الضغوط.
ولولا أن هذا الموقف غامض بالفعل، لزادت احتمالات الضربة العسكرية ضد إيران بشكل مؤكد.
ماذا عن الإقليم؟
زار وزير الدفاع السعودي خالد بن سلمان بن عبد العزيز طهران، وهناك التقى السيد خامنئي الذي أكد استعداد بلاده لمساعدة السعودية في المجالات التي حققت فيها تقدماً، وقيادات عسكرية إيرانية شددت بدورها على أهمية علاقة الدولتين في تأمين الاستقرار في المنطقة.
الدولتان تريدان تعزيز التعاون الذي استؤنف في تفاهم بكين قبل سنتين، وإبعاد علاقتهما الثنائية عن تفاعلات الصراع العالمي، على الرغم من تباين مواقفهما تجاه فلسطين.
وهنا يأتي تصريح رئيس الأركان الإيراني الدي ثمّن موقف السعودية تجاه غزة.
لكن هناك روسيا أيضاً، وهي معنية بكل ما يجري، ولا سيما بإيران، بعد توقيع اتفاقية الشراكة الاستراتيجية الشاملة معها.
طهران موسكو… موسكو طهران
حمل وزير الخارجية الإيراني عباس عراقتشي رسالةً مكتوبة من السيد خامنئي إلى بوتين، فحواها تنسيقٌ في الملفات الإقليمية والدولية، وتأكيد أن التخصيب حق لإيران وخط أحمر لا رجوع عنه.
روسيا لديها مصلحة بعدم التفريط بإيران، وببقائها ضمن الشركاء المهمين في المنطقة. وهي من جهة ثانية، تمتلك علاقات ممتازة مع السعودية وقطر، وتحاول إدارة دبلوماسية دافئة مع دول الخليج كلها، على الضفتين.
الرسالة الإيرانية الرفيعة لبوتين، لا بد أنها ترسم الخطوط العريضة للمرحلة المقبلة، قبل الاتفاق مع الأميركيين وبعده. فكيف بدا ذلك؟
التصريحات الإيرانية التي صاحبت الرسالة كانت لافتة أيضاً في إشارتها إلى أهمية العلاقة مع روسيا، وإشارتها أيضاً إلى المسار السهل الذي تسير فيه الاتفاقية في برلماني الدولتين.
وهذا يعني أن طهران تتوقع وترغب باتفاق مع الأميركيين، لكنها تؤكد في الوقت نفسه اهتمامها بتطوير العلاقات مع موسكو، وعدم تأثير الاتفاق المرتقب على هذه العلاقة، خصوصاً في البرنامج النووي.
ضيف آخر في موسكو
في موسكو، حط أمير قطر تميم بن حمد آل ثاني روسيا، وهناك التقى بوتين. الزيارة هي الأولى منذ 2018، وبعد تقلبات كثيرة في سوق الغاز، وأحداث كبرى تخص روسيا والشرق الأوسط والعلاقات مع الغربيين، والكثير الكثير من العقوبات والدماء والحروب العسكرية والاقتصادية والجمركية…
الأحداث كلها تصب في خانةٍ واحدة. الجميع يبحث عن موقعه في مرحلة ما بعد موجة ترامب العدائية، وفي انتظار الاتفاقات الكبرى التي يتوقع أن ترسم ملامح النظام الدولي.
وجميعهم، ينتظرون ما سيجري بين واشنطن وبكين أولاً وأخيراً… حدود ورجالات وقوى أزاحتها الأمواج، وآخرون صمدوا وأمسكوا مصيرهم. فمن ينجح الآن مع اشتداد الموج؟ ومن ستجرفه الأحداث؟
محاولة مكيدة في باريس
في لحظة حرجة تماماً، حاولت “إسرائيل” لعب لعبةٍ أمنية شديدة الخطورة في باريس.
التوقيت كان خطراً، والانعكاسات يمكن أن تؤدي إلى عكس ما يرجو الإسرائيليون تماماً من المفاوضات الأميركية-الإيرانية والعلاقة مع ترامب.
وزير الشؤون الاستراتيجية رون ديرمر ورئيس الموساد دافيد بارنياع وصلا باريس بشكلٍ سرّي، للقاء مبعوث ترامب ستيف ويتكوف قبل توجه الأخير إلى روما حيث عقد لقاءه الثاني مع الوفد الإيراني. حتى هذه النقطة المسألة عادية.
لكن ما هو غير عادي، هو ما نشره “أكسيوس” عن أن الزيارة كانت تهدف إلى تخريب مفاوضات روما بين الولايات المتحدة وإيران.
أولاً، المحاولة هذه، أتت في توقيت قبل 24 ساعة من جلسة مفاوضات ثانية، أكثر أهمية من الأولى بين مسؤولين إيرانيين وأميركيين في روما.
وهذا يعني أن المحاولة قد تكون مستفزةً لترامب، خصوصاً أنها تستهدف التأثير على ويتكوف، الذي يوصف بأنه مؤيد للحل الديبلوماسي مع إيران، في مواجهة خيار آخر يمثله وزير الخارجية ماركو روبيو ومستشار الأمن القومي مايك والتز، يؤيد استمرار العقوبات وسياسة الضغوط القصوى.
ثانياً، ماذا يمكن للموساد ووزير الشؤون الاستراتيجية أن يقولا لويتكوف للتأثير عليه؟
الأرجح هو تكرار المعلومات التي نُشرت على نطاقٍ واسع اليوم، والتي أيضاً صدرت عن وزير الخارجية الأميركي روبيو، وتقول إن إيران وصلت حداً خطراً جداً في برنامجها النووي.
وبالأمس القريب قال رئيس الوكالة الدولية للطاقة الذرية إنها قريبة جداً من إنتاج قنبلة.
حاول الموساد أن يضغط على ويتكوف ربما بمعلوماتٍ مفترضة، لصنع ميلٍ نفسيٍ سلبي لديه تجاه الوفد الإيراني، وهذا الميل النفسي ولو كان بسيطاً، كان يمكن أن يشحن الأجواء ويؤدي إلى تخريب جزئيات مهمة جداً في المفاوضات، ولحساسية اللحظة، يمكن لهذه الجزئيات أن تعطل الاتفاق، بالأخص في ظل تقلبات ترامب وعدم القدرة على الثقة بثباته.
لكن هل يقبل الأخير بهذا السلوك الإسرائيلي الدي سيؤثر على مقاربته ويُعتبر تدخلاً في نقطة حساسة من مشروعه؟
هذا بالضبط مَكمَن الخطورة. إذ يمكن أن يحصل أحد الاحتمالين. أي أن ينجح بارنياع وديرمر في تفخيخ المحادثات بمعلومات وأجواء مفترضة وضغوط متلاعبة. وهذا ما لم يحصل على الأقل في محطة روما، أو أن يكون تدخلهما مستفزاً لويتكوف وترامب، ويسرّع المسار نحو الاتفاق، خصوصاً بعدما قامت إيران في اليومين السابقين لمحطة روما بخطوات مهمة جداً تجاه روسيا، في هذا الملف تحديداً.
وزير الخارجية الإيراني عباس عراقتشي كشف اليوم أنه نقل إلى موسكو نتائج وأجواء المحادثات النووية. طهران تطلب دعم موسكو هذه المرة كما في المرة السابقة، وربما تشركها في دقائق الحل النووي. وذلك لعلمها بعلاقتها الجيدة بترامب من جهة (الطلب كان من بوتين شخصياً وهو الوحيد الذي ظهرت قدرته المثبتة على التأثير في ترامب). كيف يمكن أن تساعد روسيا؟
موسكو لديها المصلحة في دفع الاتفاق قدماً، ولديها القدرة أيضاً، وعندما تطلب طهران تدخل موسكو فهذا لأنها تريد موازنة الأدوار الغربية، في اللحظة التي تغيرت فيها البيئة الدولية، ولم يعد المجتمع الدولي يعني دول الغرب فقط. كيف لم يعد كذلك؟ ومن الذي دمر فكرة أن “المجتمع الدولي” هو العالم الغربي فقط؟ ترامب نفسه.
تقول أورسولا فون دير لاين، إن الغرب الذي كنا نعرفه قبل أشهر فقط لم يعد موجوداً. وهذا سبب رئيس لتكون روسيا ضمن رُعاة الاتفاق، وضامنةً له.
لكن ذلك كله يبقى بين يدي المتفاوضين، وضمن مرمى قوة مدللة لدى الغرب مجتمعاً، مثّلها في باريس بارنياع وديرمر، ويمثلها كثرٌ في مقارّ كثيرة حول العالم، وهي الآن تسعى إلى هدفٍ واحد: منع اتفاق نووي بين ترامب وإيران.