فاز قيس سعيد بولاية ثانية.. فماذا بعد
كتب رياض بوعزة, في “العرب” :
قيس سعيد يدخل ولاية ثانية تحمل في طياتها تفاؤلًا لشق من التونسيين بأن يتم تنفيذ إصلاحات حقيقية مهما كانت الصعوبات رغم أن تقييم الولاية الأولى يضم مزيجًا من الإيجابيات والمآخذ.
انتهت حفلة الانتخابات الرئاسية لعام 2024 وحقق الرئيس قيس سعيد فوزًا كاسحًا في الاقتراع من الدور الأول. لسنا في طرح نقاشي لمقاربة من مع من، ومن ضد من في هذا الاستحقاق. فالناخبون كانت لهم الكلمة، وهم من اختاروا، كما جرت العادة في مثل هذه المناسبات. هذه هي لعبة الصندوق التي اتفق عليها الجميع وعليهم تقبلها، خاصة الأحزاب والمنظمات والشخصيات والناشطين، الذين انهمكوا في الدعوة لمقاطعتها لأنها في نظرهم ليست سليمة شكلًا ومضمونًا ومغلفة بالاستبداد وقمع السياسيين للتفرد بالحكم دون رقيب أو حسيب.
هذا الفوز يعكس تأييد جزء كبير من الناخبين لرؤيته حتى لو لم تقبلها شريحة من التونسيين، وما علينا الآن سوى القبول بالنتائج ومتابعة التطورات، وخاصة مدى تطبيق سياساته، إذ يبدو أنه يسعى لتنفيذ برنامجه الانتخابي بشكل أكثر قوة، خاصة في ما يتعلق بمكافحة الفساد وتحقيق أسباب التنمية، بما في ذلك تحسين الوضع المالي وتوفير فرص العمل وكبح التضخم، مع تعزيز التعاون الدولي.
عند توليه السلطة في أواخر 2019، حدد الرئيس قيس سعيد لنفسه مهمة استعادة هيبة الدولة، ووضع حد للفوضى والتراخي الذي دفع البلاد إلى دوامة من المشاكل، مثل الديون والعجز والارتجال في إدارة دواليب تونس وفق محاصصة حزبية إلى حد المجازفة بالمساس باستقلالها وسيادتها. وكان الاستقرار بمفهومه الشامل على رأس أولوياته ومزودًا بشحنات سياسية وشعبية منذ البداية، مدفوعًا بفكرة أن الإصلاح ليس مجرد شعار.
◄ الضرورة تتطلب تقييم المرحلة السابقة على كافة المستويات أولًا، ثم التفكير في كيفية الاستعداد لفترة أخرى ستحمل بلا شك مفاجآت نرجو أن تكون في صالح تونس والتونسيين
لم يكن ما حصل للتونسيين في 2011 يتعلق بإنهاء حالة التفرد بالحكم فحسب، بل كان هدفهم الأول هو تحسين حياتهم اليومية وتحقيق مكاسب الحرية وتعزيزها. لكنهم وقفوا على عجز صارخ في تجسيد ذلك خاصة مع سهولة تعرض البلد للصدمات الخارجية، مما ولّد انطباعًا بأن التغيير فقد قوة الدفع وبدأ في التآكل بسبب الحسابات السياسية الضيقة لمن كانوا في السلطة والمعارضين لهم، مما أفرز في 2021 نظامًا جديدًا برأس واحد.
على أيّ حال، فإن الرأي العام اليوم لم يعد ينجذب إلى المعارضة التي تضم أحزاب الإسلام السياسي والليبرالية واليسارية التي كانت تتحكم في مصير الدولة دون مسؤولية وطنية، لأن شعبوية سعيد تبدو جذابة وتتغذى من مواقف أولئك الذين يرغبون في السباحة ضد التيار ويتم تثبيطهم بسبب المخاطر التي يُنظر إليها على أنها متزايدة وتهدد أمن الدولة وقوت التونسيين ومكتسباتهم الشحيحة أصلًا.
المؤكد أنه سيكون ثمة ضغط متزايد لتحقيق الرئيس لوعوده الانتخابية، إذ يتعين عليه العمل بسرعة على القضايا المصيرية. يمكن أن يعزز هذا من شرعيته محليًا ودوليًا، ما قد يسهل عليه التعامل مع الشركاء الخارجيين. لكن مراقبة ردود الفعل الشعبية على سياسته أمر لا يمكن تجاهله وتحديدًا من الفئات التي قد لا تكون راضية عن بعض التوجهات. الجانب الآخر يتمثل في كيفية تحويل التحديات الكثيرة إلى فرص في مهمة لن تكون سهلة بالمرة.
قيس سعيد يدخل ولاية ثانية تحمل في طياتها تفاؤلًا لشق من التونسيين بأن يتم تنفيذ إصلاحات حقيقية مهما كانت الصعوبات، رغم أن تقييم الولاية الأولى له يضم مزيجًا من الإيجابيات والمآخذ، التي يمكن الحديث فيها ومناقشتها وتحليل أبعادها سياسيًا واقتصاديًا واجتماعيًا، لكن الأمر الذي يجب التركيز عليه فعليًا الآن هو ماذا بعد السنوات الخمس المقبلة لمواصلة الحفاظ على استمرارية الهدوء وإخفات الصخب السياسي المزعج، ومواجهة المتلاعبين بأمن الدولة.
لا يمكن التوقع بشكل دقيق بتطور الأحداث خلال الفترة الممتدة من الآن وحتى العام 2029، خاصة من حيث ضبط الأوضاع السياسية والمالية والمعيشية، حتى لا تكون فيها ثغرات وفجوات قد تكون مثار انتقاد لسياسات سعيد، وهو واقع الحال للمناوئين له، ليس لأنها ظاهرة صحية في ممارسة الحياة العامة، بل لكونها مفيدة لمن سيتولى زمام السلطة من بعده، وهذا هو أهم شيء يجب التركيز عليه اليوم لكي تواصل الدولة استعادة هيبتها.
◄ لم يكن ما حصل للتونسيين في 2011 يتعلق بإنهاء حالة التفرد بالحكم فحسب، بل كان هدفهم الأول هو تحسين حياتهم اليومية وتحقيق مكاسب الحرية وتعزيزها
احتاجت تونس عشر سنوات لإنهاء فوضى سادت الدولة تحت يافطة “ثورة الربيع العربي” مع وصول شخصيات وأحزاب للسلطة. وبما أنها كانت في الغالب هاوية سياسيًا، تم تخريب أسس الدولة في مشروعها لتثبيت دعائم الحريات والديمقراطية وحقوق الإنسان، ضمن محاصصة سمجة جعلت التونسيين يدخلون متاهة لا نهاية لها من الأزمات والمشاكل، لدرجة أنهم لفظوها نهائيًا، وقد أكدوا ذلك بوضوح في الاقتراع الأخير.
اليوم ونحن ندخل مرحلة جديدة، ورغم أنه من المبكر جدًا التكهن بمن سيخلف سعيد في هرم السلطة، لكن سيكون فيها التحضير منذ هذه اللحظة للبنة قوية لتداول الحكم مع تثمين المكتسبات التي تحققت خاصة على المستوى السياسي والتشريعي والدستوري والقضائي، وإن كانت منقوصة ببعض الخطوات كعدم تركيز محكمة دستورية حتى الآن، على سبيل المثال لا الحصر، أمرًا مهمًا وضروريًا بنفس قدر التفكير في وضع الاقتصاد المتعثر على السكة الصحيحة للانتعاش والنمو، وبنفس قدر الاهتمام بالجانب الاجتماعي، الذي لا يزال يتطلب الكثير من العمل لترميمه.
النظر إلى مستقبل الجيل القادم سيكون هو الدافع الرئيسي. هذا الهاجس هو الشغل الشاغل مع اختلاف زوايا رؤية كل تونسي للأمر من منظوره الخاص. وبما أن ثمة عزيمة لطي صفحة السنوات الخمس الأخيرة بكل ما حملته من سلبيات وإيجابيات، فإن الضرورة تتطلب تقييم المرحلة السابقة على كافة المستويات أولًا، ثم التفكير في كيفية الاستعداد لفترة أخرى ستحمل بلا شك مفاجآت نرجو أن تكون في صالح تونس والتونسيين.