غوتيريس الأمين العام الأعلى صوتاً بوجه إسرائيل
يريد الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريس أن يختتم ولايته وهو مرفوع الرأس. ولذا جعل من الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة قضية الأمم المتحدة. وأراد من تفعيل المادة 99 من ميثاق المنظمة، في 7 ديسمبر/ كانون الأول الحالي، تسجيل موقف تاريخي، وهو يدرك أن اللجوء إليها لن يقود إلى تغيير جذري للموقف داخل مجلس الأمن.
والدليل على ذلك هو أن الولايات المتحدة استخدمت حق النقض “الفيتو” خلال الجلسة التي دعا إليها غوتيريس في 8 ديسمبر الحالي، وقوّضت مساعيه، التي استمرت عدة أيام، من أجل حشد موقف دولي لوقف إطلاق النار في القطاع.
وأيّدت مشروع القرار حينها، والذي يطالب بالوقف الإنساني لإطلاق النار في غزة، 13 دولة، فيما امتنعت بريطانيا عن التصويت، ولم يصوّت ضده سوى الولايات المتحدة. وحقق غوتيريس من ذلك هدفاً رئيسياً هو إحراج واشنطن أمام المجتمع الدولي، الذي أيّد بقوة سرعة التوصل إلى وقف فوري لإطلاق النار.
إحراج أميركي
الإحراج لا يقف عند دعم واشنطن حربَ إسرائيل، بل اعتبارها شريكة فيها. هذا موقف توصل إليه حتى الرئيس الفلسطيني محمود عباس، الذي التزم جانب عدم ازعاج الولايات المتحدة، ومجاراة مقارباتها للوضع في غزة.
وهناك مصادر أخرى للحرج الأميركي، منها أن مشروع القرار قدّمته دولة الإمارات نيابة عن مجموعة الدول العربية والإسلامية. وشارك ما يقرب من مائة دولة عضو في الأمم المتحدة في رعاية النص القصير. ودعا إلى وقف فوري لإطلاق النار لأسباب إنسانية، وإطلاق سراح جميع الرهائن، والسماح بوصول المساعدات الإنسانية.
تفعيل المادة 99 من ميثاق الأمم المتحدة
تنص المادة 99 من ميثاق الأمم المتحدة على أنه “للأمين العام أن ينبه مجلس الأمن إلى أية مسألة يرى أنها قد تهدد حفظ السلم والأمن الدوليين”. ويُنظر عادة إلى هذه المادة على أنها سلطة تقديرية، لا تؤدي على الفور إلى إجراء مباشر من الأمم المتحدة أو مجلس الأمن، إلا أنها يمكن أن تقدم لمجلس الأمن قوة دافعة لإعادة النظر في مشاريع القرارات الفاشلة سابقاً، في ما يتعلق بالوضع في غزة، بما في ذلك القرار الذي دعا إلى وقف إطلاق النار.
يعلم غوتيريس أن المادة 99 مجرد سلاح رمزي
ويعلم غوتيريس أن هذه المادة مجرد سلاح رمزي في غياب موازين قوى تنتصر لها داخل مجلس الأمن، حيث استُخدمت قبل ذلك عدداً من المرات من دون الأخذ بمضمونها. لكن الأمناء العامين السابقين الذين لجأوا إليها فعلوا ذلك من أجل تسجيل موقف لا أكثر، هو كناية عن ممارسة الحكم السياسي واللباقة والنزاهة.
وصل غوتيريس إلى هذا الموقف وهو يعلم منذ بداية الحرب على غزة أنه سيدخل في اشتباك مفتوح مع المسؤولين الإسرائيليين. وكانت محطته الأولى حين أعلن من رفح المصرية، في 24 أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، أنه “من المهم أن ندرك أن هجمات حماس (في 7 أكتوبر) لم تحدث من فراغ، وأن هذه الهجمات لا تبرر لإسرائيل القتل الجماعي الذي تشهده غزة”.
هجوم إسرائيلي على غوتيريس
أول رد جاء في اليوم نفسه، حينها، من ممثل إسرائيل لدى الأمم المتحدة جلعاد إردان، الذي دعا غوتيريس إلى الاستقالة، قائلاً إنه “فقد كل الأخلاق والحياد ومنفصل تماماً عن الواقع في منطقتنا”. وقاد حملة واسعة ضد الأمين العام بهدف ترهيبه وإسكاته، ولكن صوت الأخير بقي عالياً، حتى وصل إلى استخدام المادة 99.
ولم تسكت له إسرائيل هذه المرة أيضاً، فقد وصف وزير الخارجية الإسرائيلي إيلي كوهين ولاية الأمين العام بأنها تشكل خطراً على السلام العالمي، مشيراً إلى أن مساعيه لتفعيل المادة 99 تشكل دعماً لحركة “حماس”. وتساءل كوهين عن سبب عدم تفعيل المادة 99 حتى الآن، في ظل وجود الكثير من الصراعات في العالم، بما في ذلك في أوكرانيا واليمن وسورية، حيث تم استخدام الأسلحة الكيميائية.
يبدو أن إسرائيل أدركت منذ البداية أن خطاب غوتيريس عن سياق 7 أكتوبر في تاريخ الاحتلال الإسرائيلي سيأخذ الأمم المتحدة نحو موقف مختلف من الحرب، وهو بمثابة شرارة نزاع بينها وبين المنظمة الدولية. ولذلك كان أول قرارين اتخذتهما تل أبيب في هذا السياق حاسمَين.
الأول هو إعلان كوهين أنه لن يجتمع بعد الآن مع غوتيريس، والثاني هو رفض منح تأشيرة دخول إلى إسرائيل لوكيل الأمين العام للأمم المتحدة للشؤون الإنسانية، ومنسق الإغاثة في حالات الطوارئ، البريطاني مارتن غريفيث، والذي لا يقل بصراحته عن الأمين العام في تشخيص الوضع في غزة.
أول وسيلة قمع لموقف غوتيريس هي الطلب الأميركي من حكومة البرتغال الضغط عليه، باعتباره مواطنها ورئيس وزرائها السابق. لكن واشنطن تلقت رداً لم يعجبها من قبل وزير الخارجية البرتغالي جواو غوميز كرافينيو، الذي صرح بأن حكومته تدعم موقف غوتيريس.
وقال: “نحن نتفهم تماماً ونتبع موقف أنطونيو غوتيريس، الذي كان واضحاً عندما دان إرهاب حماس”. ورفض الدعاية الإسرائيلية التي تقول إن غوتيريس يبرر الإرهاب، ودعوات إسرائيل له للاستقالة.
تشير المحررة السابقة لصحيفة “بوبليكو” الإسبانية اليومية باربرا ريس إلى أن هناك “تقليداً طويلاً في السياسة البرتغالية يتمثل في كل شيء من أجل فلسطين، ولا شيء ضد إسرائيل”.
منذ سنوات من الديمقراطية، كانت هناك 29 حكومة، بعضها إلى اليسار، وبعضها إلى الوسط، وبعضها إلى اليمين، لكن موقف البرتغال ظل من دون تغيير، وهو في جوهره: الدفاع عن الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني في دولة، وإدانة الاحتلال الإسرائيلي للأراضي العربية.
وتعتبر إسرائيل أن الأمم المتحدة منحازة ضدها. وتضرب مثالاً على ذلك أن الجمعية العامة أصدرت 140 قراراً تنتقدها بين عامَي 2015 و2022 فقط، وتدين بناء المستوطنات وضم مرتفعات الجولان.
والقسم الأكبر منها صدر خلال ولاية غوتيريس التي بدأت عام 2017، في حين أنه صدرت، في نفس الفترة الزمنية، 68 قراراً فقط تتعلق ببقية العالم، بما في ذلك 5 قرارات فقط بشأن إيران، على سبيل المثال.
تاريخ من إشراك إسرائيل في الأمم المتحدة
ومع أن إسرائيل لم تمتثل لأي قرار من هذه القرارات، ومنها ما هو ملزم، فإنها ترفع الصوت لتقول إنها تعامَل بشكل غير عادل من قبل الأمم المتحدة، وهو ما يفسر سبب قوة ردود أفعالها على غوتيريس، الذي واصل التصعيد ضدها، ولم يتراجع أمام التهديدات وحملات التحريض ضده.
وفي الوقت نفسه، جرى اتخاذ عدد من الخطوات الدبلوماسية لإشراك إسرائيل بشكل أكبر في الأمم المتحدة. ففي عام 2012 على سبيل المثال، انتُخبت نائباً لرئيس الجمعية العامة لأول مرة، وفي عام 2016، عُيّن إسرائيلي رئيساً للجنة الشؤون القانونية، هو داني دانون.
وفي الواقع، لم يكن غوتيريس يُعتبر منتقداً لإسرائيل بشكل خاص. قبل بضع سنوات فقط، في عام 2020، منحه المؤتمر اليهودي العالمي جائزة تيودور هرتزل. وأعرب رئيسه رونالد لاور عن امتنانه للأمين العام للأمم المتحدة. وقال في كلمته خلال حفل توزيع الجوائز: “من خلال أقوالك وأفعالك على مدى سنوات عديدة، أظهرت أنك صديق حقيقي ومخلص للشعب اليهودي ودولة إسرائيل”.
صار واضحاً الآن أن إسرائيل ستلغي العمل بهذا الكلام الدافئ، ولن يكون بينها وبين الأمين العام سوى الحرب المفتوحة. ومن المرجح أن المتبقي من ولايته، التي ستكمل العام السابع والأخير في 2024، سيكون مفتوحاً على شتى الاحتمالات.
مواجهة مفتوحة بين تل أبيب وغوتيريس
هذه ليست المواجهة الأولى بين غوتيريس وإسرائيل، فقد سبقتها واحدة أقل عنفاً في يوليو/تموز الماضي، عندما دان الاقتحامات الإسرائيلية لمخيم جنين في الضفة الغربية، وقتل قرابة 12 فلسطينياً، وتجريف طرقات المخيم.
في حينها، دان الأمين العام العملية، ووصفها بأنها “جريمة حرب”، حسب التقرير الذي قدمته مفوضة الشؤون الفلسطينية فرانشيسكا ألبانيز، التي قالت عنها إسرائيل إن لديها تاريخ من “معاداة السامية والخطابات التحريضية ضد الدولة اليهودية”، وتضع اللوم الوحيد في الصراع على إسرائيل.
المواجهة مفتوحة الآن، ويبدو أن غوتيريس ليس في وارد الخضوع للترهيب أو التراجع عن مواقفه، حتى لو أدى ذلك إلى فقدانه منصبه. مع العلم أن ذلك صعب من الناحية التقنية، وهو في العام الأخير من ولايته، ومن غير الواضح ما إذا كان سيترشح لولاية جديدة.
عموماً، هو ليس أول أمين عام في تاريخ الأمم المتحدة الذي يدخل في مواجهة مع إسرائيل، ويواجه حملة تشهير واسعة، فقد سبقه إلى ذلك الأمين العام الأسبق النمساوي كورت فالدهايم (1972-1981)، لكنه حتى الآن الأعلى صوتاً في مواجهة إسرائيل.
إعادة الوهج للأمم المتحدة
ويشكل موقف غوتيريس درساً سياسياً وأخلاقياً مهما للمجتمع الدولي، ويعيد للأمم المتحدة بعض الوهج الذي افتقدته بسبب الامتهان الأميركي الإسرائيلي لها، ويحد من محاولات واشنطن استخدامها في محاولات التغطية على حروبها عبر العالم.
أخذ غوتيريس يبتعد عن شخصية الأمين العام المشلول
بات غوتيريس معروفاً بأنه ذو رسالة قوية، يلقيها بصوت ناعم. وأخذ يبتعد أكثر عن شخصية الأمين العام المشلول، عندما لعب دوراً حاسماً في التوصل إلى اتفاق خلال الصراع الروسي الأوكراني بين روسيا وأوكرانيا وتركيا للسماح بتصدير الحبوب.
مواقفه بشأن مخاطر تغير المناخ تجعله أقرب إلى خطاب المدافعين عن البيئة، من دبلوماسي الأمم المتحدة التوفيقي. وصدم العالم في سبتمبر/أيلول الماضي بتصريحه أن “الإنسانية فتحت أبواب الجحيم”.
“إنه أحد الأصوات الأخلاقية القليلة التي يمكن سماعها في العالم، إلى جانب صوت البابا فرنسيس”، تقول بيلار ديل ريو، الصحافية ورئيسة مؤسسة الكاتب البرتغالي جوزيه ساراماغو، مضيفة أنه “يقول ما يفكر فيه العديد من المواطنين”.
عندما كان رئيسا لوزراء البرتغال، توجه إلى مطار لشبونة لاستقبال ساراماغو عام 1998 بعد أن أصبح أول كاتب برتغالي يفوز بجائزة نوبل للآداب. وتعتقد ديل ريو أن الوصف الذي أطلقه ساراماغو على نفسه ذات يوم يمكن تطبيقه على غوتيريس الذي، كما تقول، أصبح “أكثر حرية” مع تقدم العمر: “كلما كبر، أصبح أكثر حكمة؛ وكلما أصبح أكثر حكمة، كلما أصبح أكثر تطرفاً”.
العقد الذي قضاه غوتيريس مفوضاً سامياً للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين (2005-2015)، سمح له بأن يعرف بؤس وألم اللاجئين. وهو الذي صلب بسبب موقفه من القضية الفلسطينية.