رأي

غزّة فوق سرير من ماء وطين

كتب جورج كعدي في صحيفة العربي الجديد.

القهر يطارد أهل غزّة المتألّمين، أبطال الإنسانيّة الصابرين، حتى إلى خيامهم الغارقة بمطر الشتاء الغزير، فإن لم تمطر السماء قذائف وصواريخ أمطرت سيولاً تحوّل رمل الأرض سريراً من ماء وطين يعوم بالأطفال المرتجفين برداً وبللاً، كأنّما لا يكفي غضب وحوش الأرض، حتى ينزل غضب السماء أيضاً، فأيّ ذنبٍ اقترفت هذه المألومة غزّة العزّة ليحلّ بشعبها العزيز كلّ هذا العذاب؟ وهل من قهر وذلّ أصابا بشراً في التاريخ يضاهيان ما أصاب منهما أهل غزة؟ كلا، لا شعب في التاريخ اختبر في وقت واحد الموت وألم الإصابة وبتر الأطراف والجوع والعطش والنزوح المستمرّ والنوم في العراء والفقدان التام للعلاج والدواء والبقاء في بيئة ملوّثة غير صالحة للعيش. فلنراجع التاريخ ووقائع الحروب والمجاعات. لم تجتمع مرّةً كل هذه العذابات معاً. يكفي أن نُعْمِل خيالنا ونتمثّل أنفسنا مكان هؤلاء الناس الأسطوريين في تحمّل صنوف الألم والعذاب مجتمعة، فيخال كلٌّ منّا نفسه جائعاً مشتهياً لقمة تسدّ رمقه، أو عطشان غير متوافرة له نقطة ماء يرتوي بها، أو بردان ولا نار تدفئه أو غطاء يتلحّفه، أو زاوية ينام فيها ولا يخشى غرقها بمياه الأمطار الفائضة. ليس في وسع أحدنا أن يحتمل شيئاً واحداً من كل ذلك، بل إن عاراً يتلبّسنا لو شبعنا ولم نفكّر في جوعى غزة صغاراً وأمهات، شيباً وشبّاناً، ولو ارتوينا ولم نتذكر عطش هؤلاء القوم الصابرين، ولو غفونا في أسرّتنا الوثيرة الدافئة تحت السقوف المحميّة ولم ترد في بالنا صور الأطفال الغارقين حتى الخاصرة في الماء وقد استيقظوا على أنفسهم غرقى مع فرشهم البسيطة في مستنقع الماء والطين، وغرقت معها خيمهم، ملاذهم الوحيد في عراء هذا الكون.

إنه عارٌ إنسانيّ شامل، على الأفراد والجماعات، على الدول والحكومات والمؤسّسات الدينية والمدنية، على الهيئات الدولية التي انكشف عجزها، وبخاصة دوائر “العدالة الدولية” المفترض فيها أن تراقب وتحاكم وتعاقب وتضع حدّاً للإبادات والقتل والتجويع والتنكيل بالشعوب، على نحو ما يحصل منذ سنتين ونيّف في غزة التي طال أمد عذابها، وتمادت الجريمة الرهيبة المرتكبة في حقّها، فقط لأنّ مجموعة مناضلة قامت بفعل تحرّري تجيزه سائر القوانين التي تنصّ على حق الشعوب في مقاومة المحتلّ.

فشل ما يسمّى المجتمع الدولي فشلاً ذريعاً في حماية الكرامة الإنسانية، شعوباً وأفراداً

الجهات الدولية المعنية بمأساة غزة سقطت، يقيناً، في امتحان العدالة والحق الإنسانيين، فغابت المرجعية القانونية الرادعة وسادت شريعة الغاب من جديد لنفقد مرّة أخرى الأمل في السلام العالميّ، ولنعود إلى نظرية كانط القائل: “من خشب معوجّ كالذي صُنع منه الإنسان، لا يمكن أن يُصنع شيء مستقيم تماماً”. إذا كان الإنسان معوجّاً فإنّه لا يستطيع إنتاج عدالة مستقيمة ولا صيغ أخلاقية شاملة ومستقيمة. وإلّا فما معنى أن يتفرّج العالم (وإن احتجّ بعضه مشكوراً وخرج إلى الشارع فهذا لا يكفي ولا يبدّل شيئاً) على أحوال إنسان غزّة الجائع والبائس والمحروم من كل أساسيات الحياة، وهو يبيت في العراء، من غير أن يكون هناك تحرّك عاجل وإنقاذ فوريّ سريع لأكثر من مليون من البشر المحاصرين والمرتجفين برداً، بل والمعرّضين حتى الساعة لغارات يومية من الوحش الصهيوني الذي يسيّره السفّاح السايكوباتي المريض بنيامين نتنياهو.

استمرار الصمت العالمي حيال مأساة غزّة، وعدم التعامل معها بكونها قضية طارئة وملحّة، هو إمعان في سقوط المجتمع الإنساني وهيئاته الأممية البائسة التي لم تُظهر فاعلية ملموسة ومفترضة. فشل ما يسمّى المجتمع الدولي فشلاً ذريعاً في حماية الكرامة الإنسانية، شعوباً وأفراداً. كرامة الإنسان المنتهكة أفظع انتهاك في غزّة هي صورة عن كرامة إنسانية مهدورة التي لم يفلح قانون عدالة في صونها فعلاً، لا بالكلام والشعارات الفارغة.

أخبار مرتبطة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى