رأي

غزة.. والتيه الاستراتيجي الإسرائيلي

كتب حسام ميرو في صحيفة الخليج.

منذ اندلاع الحرب في السابع من أكتوبر 2023، دخلت إسرائيل في مواجهة لم تتوقع مداها أو نتائجها، مواجهة جعلت قطاع غزة يتحول من مجرد ساحة صراع متكرر إلى عقدة استراتيجية تهدد البنية الداخلية لإسرائيل وصورتها الدولية ومشروعها السياسي في المنطقة وقد بدا واضحاً أن كل ما رُفع من أهداف كبرى في الأيام الأولى للحرب، من القضاء على حركة «حماس» إلى استعادة جميع الرهائن وترميم قوة الردع، لم يتحقق أو صار بعيد المنال، الأمر الذي دفع عدداً من المحللين الإسرائيليين أنفسهم إلى وصف الوضع بالتيه الاستراتيجي.
هذا الوصف لم يأتِ من خارج إسرائيل، بل من داخلها، حيث اعتبر العديد من المحللين الإسرائيليين أن دولتهم «تعيش حرباً بلا خريطة طريق وبلا مخرج عسكري أو سياسي» وأن القيادة السياسية تتصرف كما لو أن مجرد استمرار القتال هدف في ذاته، بينما الواقع يثبت أن التورط في غزة يذكِّر بتجربة لبنان الطويلة، حيث غرق الجيش في مستنقع استنزاف لا نهاية له، ولم يتمكن من مغادرته إلا بعد ثمانية عشرة عاماً.
هذا التيه يظهر أولاً في التناقض الصارخ بين الأهداف المعلنة من الحرب وبين الوقائع الميدانية، فالقضاء على «حماس» هدف ثبتت استحالته حتى في تقديرات الاستخبارات الإسرائيلية، التي باتت تعترف بأن الحركة لم تفقد بنيتها الأساسية وأنها نجحت في إعادة التموضع في مناطق عديدة رغم الدمار الهائل وأن استعادة الرهائن لم تتم عبر العمليات العسكرية، بل كانت كل عملية عسكرية تهدد حياتهم وتضع الحكومة تحت ضغط مضاعف من عائلاتهم وهنا يصبح السؤال داخلياً في إسرائيل، فإذا كانت الحرب غير قادرة على تحقيق أهدافها المركزية، فما الغاية من استمرارها؟
الوقائع الميدانية تقول: إن إسرائيل تتجه إلى إعادة احتلال غزة، انطلاقاً من وجهة نظر مفادها أن بقاء الجيش في غزة ضرورة وجودية، لكن هناك أصواتاً إسرائيلية عديدة تشكك في صحة هذا الخيار وتعدّه مقدمة لحالة استنزاف طويلة، في مقابل هذه الأصوات، هناك من يقول إن الانسحاب قد يفهم على أنه هزيمة وأن الفراغ الأمني سيمنح الفصائل مجالاً لإعادة بناء نفسها من جديد، في الوقت الذي يبقى فيه الرهان على إدارة مدنية فلسطينية معلّقاً في الهواء، فإسرائيل ترفض التعامل مع السلطة الفلسطينية، في الوقت الذي لا يوجد فيه أي طرف فلسطيني آخر يحظى بشرعية فلسطينية ودولية وكل هذه الخيارات تشير إلى مأزق استراتيجي كبير.
المجتمع الإسرائيلي في انقساماته ليس أفضل حالاً من حال النخب السياسية، فهناك من يطالب بتصفية «حماس» مهما كان الثمن، ويعتبر أن إعادة احتلال غزة من شأنه أن يعيد حالة الاستقرار للمجتمع الإسرائيلي، في المقابل هناك قسم آخر يرى أن المجتمع لا يمكن أن يعيش على وقع حرب دائمة وأن استمرار حالة الحرب تخدم هدفاً واحداً وهو بقاء بنيامين نتنياهو رئيس الوزراء في السلطة وأن الحرب بعد أن تمّ القضاء على معظم القادة العسكريين الكبار في «حماس» فقدت معناها وأن سلوك الجيش في غزة قد أكل من رصيد إسرائيل الدولي حتى بين حلفائها الغربيين وأن سردية المظلومية التاريخية لم تعد كافية لاستثارة التعاطف مع سياسات تل أبيب.
أما على الصعيد الدولي، فإن التيه الاستراتيجي أخذ شكلاً أكثر وضوحاً، فإسرائيل التي كانت تقدم نفسها دائماً كدولة ديمقراطية تحمي نفسها من الإرهاب، باتت في عيون الرأي العام العالمي «دولة منبوذة»، و«خارج الشرعية الدولية»، في الوقت الذي تتصاعد فيه التحقيقات في محكمة العدل الدولية بشأن جرائم حرب وإبادة جماعية، ارتكبها الجيش الإسرائيلي في غزة، ووجود زخم دولي للاعتراف بدولة فلسطينية، مع تصريح فرنسا وبريطانيا نيتهما الاعتراف بدولة فلسطينية وكانت إسبانيا وأيرلندا والنرويج قد اعترفت بها في مايو/ أيار من العام الماضي. في كل معركة عسكرية، هناك معايير محددة وواضحة لمفهوم النصر، لكن ما يظهر جلياً بعد عامين من حرب إسرائيل على غزة هو غياب المعايير التي يمكن من خلالها تعريف النصر بالنسبة لإسرائيل، في الوقت الذي دمّرت فيه كل مقومات الحياة والاقتصاد والمعيشة في القطاع وإزهاق أرواح أكثر من 60 ألف مدني، يشكل الأطفال حوالي 30% من الضحايا، إلا أنها مستمرة في عملياتها وتسعى إلى إعادة فرض وجودها العسكري، ما يشير إلى حدّة الشكوك لدى القيادتين السياسية والعسكرية بأنهما أحرزا النصر في غزة.
مسار الأحداث العسكرية والسياسية، كشف بشكل كبير أزمة القيادة في إسرائيل، إذ تبدو غير قادرة على اتخاذ قرارات واضحة، في الوقت الذي يشهد فيه المجتمع الإسرائيلي انقساماً كبيراً وحادّاً حول معنى الأمن والهوية وتعاني إسرائيل تراجعاً في شرعيتها الدولية وإحساسها بأن الاحتلال الكامل قد لا يمنحها الأمن بشكل مطلق، وأن الانسحاب قد لا يحفظ لها الردع مستقبلاً، مع تحول الحرب إلى حالة استنزاف للموارد والاقتصاد وعسكرة طويلة الأمد للمجتمع، لم يعتد عليها سابقاً، لكن من دون أي يقين بأنه قادر على التكيّف معها.

أخبار مرتبطة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى