كتب سعد بن طفلة العجمي في صحيفة إندبندنت عربية.
توقفت الحرب في غزة بهدنة هشة تمتد لستة أسابيع، ومع توقف الحرب تبدأ حسابات الربح والخسارة، فمن هُزم في هذه الحرب ومن انتصر؟ ومن الذي خسر بهذه الحرب الشعواء على غزة؟ فلهذه الحرب امتدادات إقليمية ودولية وارتدادات على الوضع الجيوسياسي في المنطقة برمتها، فكيف هي نتائجها حتى الآن؟
المهزومون
أولاً، بنيامين نتنياهو، إذ يعد رئيس الوزراء الإسرائيلي وبالتبعية إسرائيل أكبر المهزومين، فلم تتحقق أهدافه المعلنة للحرب، وعلى رغم أنه قتل عدداً كبيراً من مقاتلي وقيادات “حماس” لكنه لم يقض على المقاومة في غزة، واضطر تحت ضغط علني وتهديد مباشر من الرئيس دونالد ترمب إلى قبول الهدنة التي كان يراوغ طوال 14 شهراً لعدم قبولها، وذلك قبل يوم واحد من تنصيب الرئيس ترمب الذي أعاد نشر وصفٍ لنتنياهو عبر منصته “الحقيقة” بأن نتنياهو “ابن ك**ه”، والوصف أطلقه البروفسور اليهودي الشهير بجامعة كولومبيا المعروفة جيفري ساكس خلال لقاء إعلامي.
انهارت حكومة حرب نتنياهو بعدما استقال وزير دفاعه أثناء الحرب، واستقال بعد الهدنة وزير الأمن القومي إيتمار بن غفير من الائتلاف الحكومي، ووزيرا حزبه “عوتسما يهوديت” (العظمة اليهودية) بعد توقيع الهدنة الأحد الماضي، وجاءت استقالة رئيس الأركان هيرتسي هاليفي كإقرار لا لبس فيه بفشل الجيش في القضاء على حركة “حماس” وإرجاع الأسرى، وأصبح نتنياهو مطارداً دولياً بعدما وجهت محكمة الجرائم الدولية له ولأعضاء من حكومته وقيادات من الجيش وربما بعض الجنود الإسرائيليين اتهامات بجرائم حرب وإبادة وجرائم ضد الإنسانية وأصدرت مذكرات باعتقاله، كما أصبح محاصراً في الداخل، فبانهيار حكومته الوارد حتماً سيواجه التهم القضائية ضده بالفساد، ناهيك عن تساؤلات الداخل الإسرائيلي حول إخفاق حكومته في رصد عملية “طوفان الأقصى” ومسؤوليته عن الحرب وكيفية إدارتها، وما تمخض من نتائجها.
إخفاق نتنياهو بإدارة الحرب على غزة جرّ الكوارث الاقتصادية والمصائب الإعلامية والعزلة الدولية له ولحكومته وبالتبعية لإسرائيل نفسها، فقد انقلبت الصورة الوهمية حول إسرائيل وتحضرها ومراعاتها لحقوق الإنسان والتزامها بقواعد القانون الدولي، مثلما شاع عنها على مدى ثمانية عقود منذ نشأتها، ولم تعد صورتها تلك الواحة الجميلة المحاطة بوحوش العرب المتعطشين للدماء وقتل اليهود ورميهم في البحر.
,يحاول نتنياهو ومن ورائه اليمين العنصري أن يسوقوا انتصارهم في لبنان وسوريا وإيران، لكن مأساة غزة وفشلهم في فرض شروطهم عليها غطى على أي منجز يحاول نتنياهو وأنصاره تسويقه.
ثانياً إيران، فقد وصلت الغطرسة الإيرانية – الفارسية إلى طغيان غير معهود بالتبجح بمشروعها للهلال الشيعي، لكن سرعان ما تهاوى هذا التمدد والتدخل بالضربات التي تلقتها في لبنان وسوريا بل وداخل إيران نفسها، ففقدت ذراعها الإستراتيجي وهو “حزب الله” الذي عملت على بنائه أربعة عقود وأغدقت عليه من لقمة الشعب الإيراني لبنائه وتسليحه وتمويله وتوجيهه بحسب مصالحها، فقضت إسرائيل على قيادات الحزب وعلى رأسهم أمينه العام حسن نصرالله، ودمرت بصورة كبيرة قدراته الحربية، وهو ما اضطره إلى الانسحاب من سوريا مما أدى ضمن عوامل أخرى إلى سرعة انهيار حليف إيران السياسي المهم بشار الأسد الذي هرب وسقط نظامه من دون رجعة، كما شلّت الضربات الإسرائيلية داخل إيران قدراتها العسكرية ودفاعاتها الجوية وقدرتها على الرد الذي وعدت به ولم يأت.
خسارة إيران لنفوذها في سوريا وهيمنتها في لبنان دعاها إلى التشبث بالعراق كحديقة خلفية لها، لكن العراقيين يعيشون أوضاعاً صعبة بسبب الهيمنة الإيرانية على بلادهم عبر ميليشيات الحشد الشعبي، وهو ما ينذر بعمل مشابه لما جرى للنفوذ الإيراني في سوريا ولبنان، وخصوصاً مع مجيء دونالد ترمب للرئاسة.
المنتصرون
لعل أوضح صور الانتصار هي في سوريا ولبنان، فقد سقط في سوريا أبشع نظام خلال القرن الـ 21 قتل أكثر من نصف مليون من شعبه وشرد 10 ملايين وحوّل البلاد إلى مرتع لعصابات طائفية ومنظمات إرهابية ووكر لتصنيع وتوزيع المخدرات في المنطقة العربية، وقلب نظام الأسد سوريا إلى محرقة ينعق فيها الغراب ويسود فيها الخراب، أما في لبنان فقد زالت سطوة “حزب الله” وضعف تنمره وانكسرت شوكته وتوقف عن حربه مع إسرائيل التي كان اشترط لوقفها توقف العدوان الإسرائيلي على غزة، لكنه اضطر إلى وقف القتال والتخلي عن غزة بعد هزيمته التي كشفت مدى التغلغل الإسرائيلي داخل تنظيمه، فجرت تصفية قياداته بالغدر والخيانة من الداخل، ونجح لبنان في انتخاب رئيس للبلاد بعد تعطيل استمر أكثر من عامين، بل ونجح في تغيير رئيس وزراء “حزب الله” نجيب ميقاتي وانتخاب رئيس وزراء جديد خارج حسابات وتحالفات الحزب.
الخاسرون المنتصرون: حماس وأهل غزة
بدأت الحرب على غزة بعملية “طوفان الأقصى” التي لا يزال يكتنف تنفيذها الجريء غموض لا يغيب عن مرأى المتابع، فشنت إسرائيل إثرها حرباً وحشية بلا هوادة على مدينة غزة التي يقطنها أكثر من مليوني شخص، فقتلت وجرحت أكثر من 150 ألف فلسطيني وفُقد عشرات الآلاف تحت الأنقاض معظمهم من الأطفال والنساء، وشرد مليونان منهم وهدمت البيوت والمعابد والمستشفيات والمدارس والبنى التحتية، وارتكبت جرائم حرب وإبادة يشهد بها القاصي والداني، وحولت إسرائيل غزة إلى خرائب غير قابلة للسكنى.
تعتبر حركة “حماس” نفسها منتصرة من ناحيتين: الأولى هزيمة إسرائيل بالفشل في تحقيق أهدافها، والثانية بقاء الحركة وعدم القضاء عليها، لكن الخسارة على الإنسان الفلسطيني من أهل غزة تفوق الوصف وتتجاوز الخيال، وما أشبه الليلة بالبارحة، فقد راهنت الفصائل في غزة كما راهنت كل القيادات الفلسطينية سابقاً بأنواعها، اليمين واليسار والديني والعلماني، على الحصان الخاسر، فراهنوا من قبل على صدام حسين وعلى الأسدين حافظ وبشار، وراهنوا على أردوغان، فكان رهانهم في كل مرة خسارة وخذلاناً، وهذه المرة راهنت الفصائل الفلسطينية وعلى رأسها “حماس” على المحور الإيراني ودخوله المعركة معها، لكن المحور تحرك فتردد ثم تبعثر وتراجع أمام الضربات الإسرائيلية الماحقة.
إسرائيل ستدخل في مراجعات ومحاسبات داخلية للحرب ونتائجها وقادتها، أما في الجانب الفلسطيني فإن الحديث عن أية محاسبة أو مراجعة لـ “حماس” في هذه الحرب يدخل الواحد في خانة “الصهينة” والعمالة، وعلى الثكالى واليتامى والجرحى والمعوقين والمكلومين والمشردين تقبل “النصر غصباً عنهم”، فلم تحقق إسرائيل أهدافها المعلنة من الحرب لكن ماذا تَحقق من أهداف “حماس” من عملية الطوفان؟ بل ماذا كانت أهداف تلك العملية الغامضة في تنفيذها؟
للموضوعية فإن خصوم “حماس” يدخلون التأييد الأعمى لها في خانة “الفرسنة” و”الأيرنة”، والواقع أنه ليس كل من انتقد “حماس” متصهين وليس كل من يؤيدها “متفرسن”، فبهزيمة إسرائيل انتصرت “حماس” وخسر الفلسطينيون في غزة كل شيء.